بعد مقتل الحسين بن علي؛ لم تهدأ
الصدور المضطرمة أو تنقصف الأحقاد المسمومة بإنتقام "المختار بن مسعود
الثقفي" بزند القائد الرهيب "إبراهيم بن الأشتر" وسيوف من شايع عَلى
خلال الثورة الدامية، وتمثيله وحرقه لجثث الفاعلين الآثمين ؛ لتظل النار مؤججة
مطمورة تحت الرماد، وبقى الدم معلقًا فى رقبة بنى العباس..
أقَضَّ الفكر مضجع عبد الرحمن ؛ فأجفل،
قام يتحسس طريقه مترنحًا فوق ساقين منخوبين، تربع على الأرض ينق برأسه محزونًا
مَلومًا. عينه العيماء تزوغ شطر الإفك والبُهتان بتبرير أفاعيل بنى أمية ؛ فيقف
له ُلبَه بالمرصاد زاجرًا وبصيرًا، نفسه
لا تطاوعه بالشجب والنكران وضميره يجاهره بحق من استشهد. شيطانه يجحد متكبرًا
وقلبه يشهد خاشعًا: ألا يُذَكرك رأس الحُسين برأس يحيى بن زكريا عليهما السلام ؛
من غرفته أمام الفرات طار عبر الزمان المنطوى على أسراره يفض حُجبه حجابًا حجاب،
وفى سماء العدل شَق سمعه صراخ الباغيين، حَط به نمرق خياله الوَثاب فى أورشليم قبل
قرابة ألف من السنين ببلاط مُلك سِبط يهوذا: ها هو "هيرودوس" يَجز ظلمًا
رأس يحيى بن زكريا عليه السلام، لتظل دماؤه المباركة تفور بالغضبة الالهية، تستقدم
" بُختنصر" المَلِكُ البابلى الكلدانى المظفر؛ ليَدُك بخيالته الفرسان
وجحافل جنده الأشاوس بلاد أورشليم، ويأسر ملكها ويسبى شعبها الظالم ويستعبده. إنها
لعنة دماء بيوت النبوة الطاهرة. تأتى وبالًا على سافكيها، تلاحق مستبيحى حرمتها
المقدسة ولو بجبَّار مَكين. أما شهوة هيرودوس للدم هى بعينها شهوة جده يزيد بن
معاوية وغيى عبد الملك بن مروان. وآن للسَفاح العَباسى إبادة مُلك الأمويين.
فاق من فرقعة سياط جَلد الضمير، على قرع
طبول موقعة الزاب داويًا يَصم آذانه. إذ رابطت جيوش الخليفة مروان بن محمد الأموى لإحدى
عشر ليلة تلاقى ألوية العباسيين المندفعة كالأعصار من كل فَج بالكوفة وتخوم خراسان
وأطاريف حميمة، ينادون، يستميتون، يتشبثون بظل الخلافة المُحَمدية، ينضوون تحت
شعار" الإمامة للرضا من آل مُحمد "، يكسرون مغامد سيوفهم فلو اطاقوًا
لدكوًا بعَزمهم قُلل الجبال. نفير الحرب نذيرًا شئومًا، الرماح المشرعة تحمل على أسنتها
مراسيل الموت، حمحمة الخيول اللاهثة تُثوِّر غبار هاج يَكُف الأبصار، تندشخ
الهامات وتجثو على الرُكب برقاب واقصة ووجوهٍ مَردوعة، السيوف المتعاركة تبعثر
الأشلاء وتشق الصدور وتبقر البطون، تعثرت الخُطى بعظام مَفريَّة مرشوق نخاعها
بسهامٍ مسنونة، هُرِّقَ الدَم حتى طال المناكب وخَضَّبَ اللُحي.
وفى الآخر.. كلٌ انفثاء وتهاوى متمخضًا عن فاجعة
اندحار بنى أمية فى الهوجاء الفاصلة بهزيمة نكراء، وارتداد فلولهم على الأعقاب
ناحية المُوصِل التى غَلقت أبوابها فى وجوههم إتقاء غَضبة العباسيين المظفرين ؛
فطفقوًا فى بَهمة الليل الغاطش يفرون بأرواحهم صوب الشام وهم يتدافعون بلا تدبر
كالعميان.
استتب الأمر لبنى العباس فراحوًا
يَحرقون النسل والحرث، يضعون النِصَال فى الرقاب بقلوب لا تلجها رحمة أو ترتادها
شفقة، ينبشون القبور، يحرقون الرُفَات. يتسنمون الهضاب، ينقبون فى الجحور وبين
الشقوق، حتى حجر الأرض يُقلعوه بَحثاً عن شئ واحد يطفئ وَقِيْد شهوة الدم فى عروقهم:
أى أموى ؛ وهو ذلك الأموى الهارب، المؤهل للولاية الذى لم تدركه سيوف ورماح
العباسيين بعد. بغتة دخل عليه طفله " سليمان " ينتفض كالمقرور، ينشج
باكيًا، لسانه معتقل فى حلقه ؛ فهم الأب دواعى النحيب المرجوف ؛ نظر من نافذة
الغرفة فهالته الراياتً السُود خافقة فوق رماح طويلة، تحدو جنود مدججين ناحية
مخبأه.
كانت تلك رايات العباسيين.
يتبع بأجزاء أخرى