في مشهد بمسرحية المتزوجون، جمع بين الراحلين جورج سيدهم (حنفي) ونجاح
الموجي (مزيكا) دار هذا الحوار :
حنفي : إلا قولي يا واد يا مزيكا .
مزيكا : نعمين يا سي حنفي .
حنفي : انتا بتفهم في السياسة يا واد يا مزيكا؟
مزيكا : أفهم في السياسة... ده أنا الشعب .
حنفي : طب إيه رأيك ياض يا مزيكا في سياسة الوفاق؟
مزيكا : سياسة الوفاق... يا بخت من وفق راسين في الحلال .
حنفي : دي سياسة أمك دي .
ولا أدري ما سبب تذكري لهذا المشهد الكوميدي الضاحك، وأنا أتابع تطورات
المشهد السياسي بأمريكا، وبخاصة بعد ما حدث، من اجتياح أنصار الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب لمبني الكونجرس، وكيف عجزت شرطة نيويورك عن التصدي لأنصار ترامب
الذين اخترقوا الحواجز الأمنية للكونجرس، ثم اقتحموا المبني وانتشروا بداخله، وهو
ما شاهدناه في نقل مباشر، ولعل الصورة الأكثر انتشاراً وتداولاً أيضاً عبر مواقع
التواصل، والتي استخدمت في صناعة العديد من الكوميكس، هي صورة أحد الأشخاص الذي
ارتدي زي الفايكينج، ودخل إلى أحد المكاتب الخاصة بالكونجرس وجلس واضعاً قدماه فوق
المكتب، في مشهد كان وبحق خير معبر عن حقيقة فكرة الديمقراطية بالدولة التي أخذت
على عاتقها مهمة نشر مفاهيمها وتعاليمها بالعالم .
فمشهد اقتحام الكابيتول الأمريكي اختزل حالة التدهور التي وصلت إليها
الولايات المتحدة الأمريكية، والتي قد لا تكون متحدة بعد ذلك .
هل تلك هي الولايات المتحدة الأمريكية ؟
هل تلك هي دولة المؤسسات والدستور والقانون والديمقراطية العريقة ؟
بدون شك ما حدث في ذلك اليوم هو نقض لكل ذلك، وهو موقف ربما يكون متصور ومقبول
في احدى دول العالم الثالث، ذلك لأن إصابة الديمقراطية الأمريكية بالطريقة التي
تم إصابتها بها في هذا المشهد العبثي يهدد الديمقراطيات كلها ويشجع الشعبويين،
وأصحاب الأيديولوجيات المتطرفة على التشبه وتنفيذ ما حصل في أمريكا في أي
استحقاق انتخابي مقبل في أي مكان في العالم، ولما لا ؟ فأمريكا ارض الحريات
والديمقراطية، حدث بها هذا، وفي واقعة سترسخ لواقع جديد في التعاطي مع نتائج
العمليات الديمقراطية ، بل ورفضها وعدم الاعتداد بنتائجها، وفي نظام يعد هو
الأول في طريقة إبداء الرأي في اختيار قائد الدولة الأقوى والأغنى والأكثر
تأثيرا في العالم .
وبداية المشهد لم تكن هي حادثة الاقتحام المشار إليها، بل أنها بدأت قبل
ثلاثة أسابيع، وتحديداً عندما وقعت صدامات في شوارع العاصمة الأمريكية واشنطن،
بين مؤيدي الرئيس دونالد ترامب وخصومه، وتدخل قوات الأمن لفضها، حينها عبر
العديد من الأمريكيين، سياسيين ومتابعين ومواطنين، عن خشيتهم من أن الباقي من
أيام الرئيس ترامب في البيت الأبيض قد تحمل ما هو أسوأ.
وفعلا تحققت هذه المخاوف يوم الأربعاء 6 يناير أثناء مصادقة الكونغرس على
نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز بها بايدن، وبعد أن اقتحم الآلاف من مؤيدي
ترامب مقر المجلس واحتلوه وعاثوا فيه فسادا لساعات، قبل أن ينسحبوا تاركين
أعضاءه ومشاهدي التلفزيون عبر العالم تحت وقع صدمة كبرى .
فلم يكن أحد يتصور أن تجرؤ جماعات يمينية متطرفة، رافضه نتيجة
الانتخابات، على اقتحام مقر الكونغرس، ففي الأسابيع القليلة الماضية تحدثت وسائل
الإعلام الأمريكية والدولية عن احتمال تزايد وتيرة مظاهرات مؤيدي ترامب في
الشوارع، لكنها لم تتوقع أن تقدم على فعلة الاقتحام .
ولم يكن أحد يتوقع أن ينهار الإدراك السياسي للمجموعات اليمينية من الأمريكيين
الى هذا المستوى المتدني، وأن يتخلون عن احترامهم للديمقراطية، ومراعاتهم لشرعية
العملية الانتخابية، فما حدث في أمريكا ما لم يكن في الحسبان، بل أنه لم يكن من
المتوقع أيضاَ في أمريكا بلد القوانين والحقوق والحريات، أن تغلق فيها أبواب
المحاكم في وجه طعون الرئيس ترامب على نتائج العملية الانتخابية، وهو ما تخلف
عنه إصراره على عدم تجاوز معضلة الإقرار بالهزيمة وبفوز منافسه في تقليد أمريكي
ديمقراطي، وإقناع الكثير من كبار أعضاء الحزب الجمهوري بوجاهة موقفه الرافض
لشرعية الانتخابات وسلامتها، رغم تأكيدهم له مرارا وتكرارا أنه لا غاية ستدرك من
إنكار نتيجة الانتخابات، وبعد أن فقد ترامب صوابه من النخبة السياسية التي خذلته،
وأعلنت صراحة عن انحيازها لنتائج العملية الانتخابية سواء كرهاً في ترامب
وسياساته، أو حتى تماشياً مع الهدف الأعظم وهو صورة الدولة الأمريكية، وعدم
التشكيك في مصداقية انتخاباتها، وهو ما يسبب حرج للنظام الأمريكي ككل، وهو آمر
مرفوض من الساسة الأمريكيين حتى لو كان على حساب سقوط مرشحهم.
وهنا ادرك ترامب أنه لم يعد له سوى
أنصاره الذين صوتوا له، وهم ورقة ضغط كبيرة وهامة في أمريكا، ورقة ضغط تحمل
توقيعات 75 مليون أمريكي قالوا نعم للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، وهي كتلة كبيرة
من قوام المجتمع الأمريكي لا يجب الاستهانة بها، وفي محاولة يائسة من ترامب، وفي
تحدي هو الأكبر لصورة الديمقراطية الأمريكية، دعا ترامب أنصاره إلى النزول للشارع
لوقف عملية مصادقة الكونغرس على فوز بايدن، وهنا تمت موقعة الاقتحام، وكل ما تلاها
من فصول المهزلة الأسوأ في تاريخ الديمقراطية الأمريكية .
وهنا أجدني أتساءل بعد هذا المشهد الذي يصعب أن يمحى من ذهن كل من شاهده،
وبخاصة ممن يرون أن أمريكا هي قطب الديمقراطية في العالم وقبلة الأحرار، هل
يكون اقتحام مبني الكابيتول ورفض نتائج الانتخابات والانقلاب عليها سبب في تغيير
وجهة نظر العالم ككل تجاه ديمقراطية العم سام ؟ وهل تصبح تلك الواقعة بداية
النهاية لحالة التمثيل وعدم الاتساق مع الذات التي تعيشها الولايات المتحدة
الأمريكية، من أنها دولة الحرية والديمقراطية واحترام الحقوق والحريات، (حتى
وإن كانت تفعل عكس ذلك) ويؤكد هذا ما رتبت ونفذت له من فصول الربيع الأمريكي
الأسود بالمنطقة العربية من نهاية 2010 وحتى الآن؟ أظن أن فصول رواية سقوط دونالد
ترامب لم تنتهي حتى الآن، وأن الفترة حتى 20 يناير من عام 2021 ستكون حُبلى
بالكثير من الأحداث التي ستغير من شكل الديمقراطية ببلاد العم سام، فهل ستحافظ أمريكاً
على ديمقراطيتها المشهورة، أم أنها ستلجأ أخيراً إلى تطبيق سياسة أم مزيكا،
ويطبقون سياسة (يا بخت من وفق راسين في الحلال).