أراد رجل الذهاب إلى السوق لبيع خروف يمتلكه وعلم بذلك بعض اللصوص، وكان عددهم خمسة. تربصوا بالرجل، ورسموا خطة شديدة الدهاء لسرقة الخروف. قاموا بتوزيع أنفسهم على جانبي الطريق التي سيمر بها الرجل للوصول إلى السوق. جلس الأول في بداية الطريق، وجلس الثاني في نهاية الربع الأول من الطريق، أما اللص الثالث فقبع عند منتصف الطريق. وكمن الرابع قبل نهاية الطريق بقليل واستقر الخامس عند مدخل السوق.
مر الرجل من جانب اللص الأول وألقى عليه السلام، رد اللص السلام، وبادره مندهشًا: لماذا يا رجل تربط هذا الكلب بحبل وتسحبه خلفك؟
التفت صاحب الخروف إلى اللص، ورد عليه مستنكرًا: هذا ليس كلبًا! أنه خروف، سأذهب لبيعه في السوق.
ثم تركه وانصرف.
التقى باللص الثاني، الذي استوقفه، وسأله متعجبًا: لماذا يا رجل تربط هذا الكلب، وتقوده خلفك؟ نظر الرجل إلى اللص، وقال له بحدة: هذا ليس كلبًا! أنه خروف، سأذهب لبيعه في السوق.
ثم تركه وواصل السير.
وصل الرجل إلى موضع اللص الثالث، الذي طرح على الرجل السؤال ذاته: لماذا يا رجل تربط الكلب وتسحبه وراءك على هذا النحو العجيب والمعيب؟ رد الرجل وقد بدأ الشك يتسرب إلى قلبه: أقسم لك .. هذا خروف، وسأذهب لبيعه في السوق.
وسار إلى حال سبيله إلى أن وصل إلى مكان اللص الرابع؛ ما أن وصل إلى هناك حتى بادره اللص بالسؤال: لماذا يا رجل تربط الكلب وتقوده خلفك هكذا؟ رد الرجل هامسًا بصوت منكسر: هذا خروف.
ملأ الشك قلب الرجل، وأخذ يتحسس الخروف ليتأكد ما إذا كان كلبًا حقًا، كما قال هؤلاء المارة الذين صادفهم في الطريق؟ أم أنه خروف كما يعتقد هو؟
عند مدخل السوق استقبله اللص الخامس بالسؤال ذاته: ماذا بك يا رجل تربط كلبًا وتسحبه خلفك دون رحمة؟
هنا تيقن صاحب الخروف إنه يقود كلبًا وليس خروفًا، فليس من المعقول أن يكون هو وحده على صواب؛ وكل هؤلاء الذين صادفهم واهمين. ثم التفت الرجل إلى اللص الخامس وأجابه بصوت مضطرب ينم عن الأسف والاعتذار:
- لقد كنت في عجلة من أمري، وظننت أن هذا الكلب خروف فربطته لأذهب به إلى السوق لأبيعه، ولم يتبين لي أنه كلب إلا توًا. ثم فك الخروف وأطلق سراحه، وأخذ اللصوص الخروف، وعاد هو إلى بيته يبحث عن خروفه.
ما حدث لهذا الرجل يثير قضية «المعرفة» التي نستمدها من شهادات الآخرين، ففي بعض الأحيان تكون الشهادة التي نتلقاها زائفة ومضللة وخادعة، إما عن قصد لتحقيق مصلحة لصاحب الشهادة، أو عن غير قصد بسبب جهل صاحب الشهادة وضحالة عقليته، لكن النتيجة واحدة في الحالتين؛ هى خداعنا وتضليل عقولنا على المستويين الشخصي والعام. ولتسأل نفسك عزيزي القارئ كم شخصًا مر بحياتك؛ كنت تصدقه وتكذب حواسك؟ ثم اتضح لك بعد حين أنه كان يستخدمك مطيةً للوصول إلى مآربه الشخصية، فأنت لم تكن بالنسبة له أكثر من وسيلة أو أداة لتحقيق أغراضه. فكثيرًا ما نلتقي في حياتنا بأناس يتعاملون معنا بوصفهم أصدقاء وأحباء مخلصين، ويقدمون لنا كثيرًا من النصائح التي نتلقاها بفرحة وغبطة، ونحرص على تنفيذها بهمة ونشاط، غافلين عن أننا ضحية لصوص ومحتالين، يستغلون سذاجتنا لتحقيق أغراضهم الدنيئة.
إن ثقتنا المطلقة في صواب الشهادات التي تلقيناها طوال حياتنا تشكل خطرًا جسيمًا على طريقتنا في التفكير، لأن الكائن البشري يتلقى شهادات منذ اللحظات الأولى التي خرج فيها إلى هذا العالَم. فالطفل يخضع طوال سنوات طفولته لشهادات تشكل وجدانه، وتؤسس للأفكار والمعتقدات التي سوف يعتنقها طوال حياته. والمرء يتقبل هذه الشهادات بوصفها الحق الذي لا يأتيه الباطل أبدًا. وقد انتبهت بعض نظم الحكم في منطقتنا العربية لأهمية تشكيل عقلية الطفل عن طريق شهادات زائفة فلجأت إلى تزييف بعض وقائع التاريخ من أجل الترويج لأيديولوجيتها السياسية، كما حدث في فرض كتب دراسية مقررة على تلاميذ المدارس بعد ثورة يوليو 1952 ، ومازالت عملية التزييف هذه لوقائع تاريخية معينة قائمة حتى اليوم بغية تحقيق أغراض سياسية. وعلى الجانب الآخر يحرص بعض رجال الدين على تزييف وقائع التاريخ الإسلامي حتى يبدو كأن العصور التاريخية للإسلام كانت جميعها عصورًا ذهبية.
«وتسير عملية التضليل عبر الشهادات الزائفة في طريقين: الأول منهما تجاري، هدفه الترويج لسلعة معينة بين الناس؛ حتى لو لم يكونوا في حاجة ماسة إليها، وحتى ولو كانت احتياجاتهم الحقيقية تتعلق بأشياء مختلفة عنها كل الاختلاف. أما الطريق الثاني الذي تسير فيه عملية تضليل العقول وتزييف وعيها، فهو طريق سياسي: إذ إن نظم الحكم المختلفة تستعين بأجهزة الإعلام من أجل دعم مركزها بين شعبها أو بين الشعوب الأخرى، وتلجأ إلى أساليب تسهم في تضليل وعي الناس وتغييبه، فتلح مثلاً على نشر صورة زعيم معين وتضخيم أخباره، فتكررها بلا انقطاع، وتستخدم كل أنواع المغالطات لتبرير تصرفاته، وتمرير أكاذيبه. إن الدعاية الإعلامية الحديثة تعمل بحرص ودأب على إشاعة العقلية التي تصدق وتستسلم، كما تعمل على هدم روح النقد ونشر روح الانقياد. وهكذا قد يجد المجتمع نفسه يؤيد نظمًا جائرة، ويصفق لزعماء يظلمونه، لأن الدعاية الحديثة أفقدت كثيرًا من الناس القدرة على التفكير السليم والرؤية الواضحة». (فؤاد زكريا، التفكير العلمي، سلسلة عالَم المعرفة رقم 3، الكويت، 1972، ص ص 111 – 113)
علينا فحص الشهادة المشكوك في صحتها من خلال مقارنتها بشهادة أخرى تكون أكثر موضوعية؛ غير أن مشكلة المعرفة المستمدة من الشهادة تتمثل في أننا نعجز عن إيجاد أدلة مستقلة للتأكد من صحتها سوى الرجوع إلى شهادة أخرى. ليست كل الشهادات بريئة، وليست كلها زائفة؛ إذن من وجهة النظر هذه يتضح أننا نعرف أقل مما كنا نتصور أننا نعرفه.