السبت 25 مايو 2024

نَظَرِيَّةُ وَحدَةِ المعرِفة عِندَ العَرَب

أخرى15-1-2021 | 22:58

يُمكِنُ التعبير عن المَعرِفَةِ فى حَدِّ ذاتِها بذلك الشيئِ الذى يبدوا جديدًا على الفِكرِ، مِن حَيثُ كَونِهِ أمرًا يُهِمُّ فى ذاتِهِ أو فى مُؤدآهُ المَعرِفِىّ. ويُمكِنُ تِبعًا لذلك أن نَلِجَ مِن ذلك التعريف المُبسَّط للمَعرِفَةِ إلى ذلك التصوّر المَعرِفِىّ عِندَ أرباب حضارتِنا العربيّة، والذين تَواصَلَت نواتِجُهُم المعرِفِيَّة على مَدَى عَشرَةِ قُرُونٍ امتدَّت مُنذُ عهد النُبُوَّة، وحتَّى تلك الغزوة النابليونِيَّة، والتى يَعرِفُها أغلَبُنا باسم الحملة الفرنسيَّة.

وقَبلَ أن نَبحَرَ فى ذلك العُنوان الذى يُمكِنُ أن يَتأرجَح بين التنظير البَحت وتلك المعانِى التى لا يُمكِنُ حَصرُها لِلمَعرِفَةِ فى إطارِها المُجرَّد، فإنَّهُ يَنبغى أوَلًّا البحثُ فى مَعنَى وِحدَةِ المعرِفَة، والتى يُمكِنُ تعريفُها لُغَوِيًّا فى إطَار مَوسوعِيَّة الفِكر العربِىِّ، والذى نَشَأ فى إطار دَولَةٍ تَوسَّطت العالم مِن الناحِيَتَين الجُغرافِيَّة والمُناخِيَّة، وهِىَ تلك الدولة التى اتَّسَعت حُدُودُها فى عهد "عُمر ابن الخطَّاب" رَضِىَ الله عنهُ لِتَصِلَ إلى أقصَى اتِّسَاعِها فى عصر "هارون الرشيد" وخُلفآئِه، إلى حَدِّ أنَّهُ كان يَنظُرُ لِلسَحاب الوَدقِ مُخاطِبًا إيَّاهُ قآئِلًا "أمطِر حَيثُ شآء لكَ الله، فَسَوفَ يأتينى خَراجُك" – بِما يَعنى أنَّ ذلك الزرع الذى سَيرويهِ مَطَرُ ذلك السَحاب الوَدق سَيذهبُ خَرَاجُهُ لِخَزَانَةِ الخليفة، بِفِعل اتّساع نِطَاق الدولة العربيّة فى عَهدِ "هارون الرشيد".


إنَّ مُجرَّد تعريف حضارة تنشأُ فى إطَار دولة تَوَسَّطَت العالَم مِن الناحِيَة المُناخِيَّة يُمكن أن يقود إلى استنباط مجموعة مِن النتآئِج، التى لا ترتبِطُ فَقَط بِذَلك البُعد الأنثروبولوجِىِّ للسَكَن فى المناطِق المُعتَدِلَة المُناخ، والتى تَنحَصِرُ فى الأقاليم المُناخِيَّة الثالِث والرابِع والخامِس، وذلك وَفقًا للتعريف العَرَبِىِّ القديم لِكِلآ مناطِق الاعتدال والانحراف المُناخِىّ، وإنَّما يُمكن لِتلك النتآئِج المُستَنبَطَة أيضًا أن تَرتَبِطَ بِمجموع الأعراق والقومِيَّات، التى اشتَرَكَت فى صِيَاغَة مُفردات تلك الحضارة الشامِلة المُتكامِلَة.

ومِن ذلك، فإنَّهُ يُمكن الوُلُوج إلى ذلك القانون الخلدونِىِّ، والذى عَرَّفَ أنَّ [جِيلَ العرب فى الخِلقَةِ طَبيعِىٌّ ]، كما ويُمكن الوُلُوجُ أيضًا إلى القانون الخلدونِىِّ التربَوِىِّ الآخَر، والذى يُعَرِّفُ أنَّ [ حَمَلَةَ العِلمِ فى الإسلام أكثَرُهُم العَجَم.]، هذا، وبِتَحليلٍ يَحمِلُ شَيئًا من المَنهجِيَّة لِهَذين القانونَين اللذان صَاغهُما سَيِّدُ فلاسِفَة الاجتماع هذا، فإنَّهُ يُمكن الشرح لِنَظريّة وَحدة المعرِفَة فى إطار ذلك التعريف الخَلدونِىِّ، والذى جَمَعَ ما بين الفلسفة الاجتماعيَّة البِنيَوِيَّة والوَحدوِيَّة المَعرِفِيَّة العربيّة، التى هِىَ موضوع مَقالِنا هذا.


لَقَد أنشأ العربُ أهلُ البَدَاوَةِ حضارةً كانوا هُم إطارُها. ولَكِنَّهُم، وعلى اعتبارِهِم أهلَ بَدَاوَةٍ، فإنَّهُم لم يكونوا أهل تدوينٍ وعُلُومٍ، عِلمًا بِأنَّهُم حَمَلَةُ الرِسَالة المُحمدِيَّة إلى البِلاد التى فَتَحوها، إذ أنَّ هؤلآء العرب كانوا فى فُتُوحاتِهم تلك جُنُودًا يحملون السِيوف، وحُكَّامًا يَسوسُون الأُمُور. فإنَّهُم لم يكونوا فى مَعيشَتِهم فى الجزيرة العربيَّة أكثَرَ مِن مُجرَّدِ تُجَّارٍ، ورُعاةِ إبِلٍ وأغنامٍ. وفى أكثر الأحايين، فَإنَّهُم كانوا يعيشون فى خِيَامٍ مصنوعةٍ مِن الوَبَر أو الشَعر. وهُو مَعنى أنَّ جِيلَهُم فى الخِلقَةِ طبيعِىٌّ، بِمَا يَعنى أنَّ عِيشَتَهُم هِىَ عِيشَةُ ذلك الإنسان البِدَآئِىِّ، والذى كانَ بِدَايَةَ كُلِّ المُجتمعات البشرِيَّة، والتى تطوَّرَت بإثرِ ذلك فيما عَدَا مُجتَمع شِبهِ الجزيرة العربيّة، والذى لم يَحظَى بِتَطوُّرٍ يُذكَر حتَّى جاءَ الإسلام.

ويُمكن بِإثرِ البحث الأنثروبولوجِىِّ فى طبيعة شِبهِ الجزيرة العربيَّة الحارَّة والبالِغَةُ القَحَالة أن نَستَنتِجَ تلك الدَمَوِيَّة المِزَاجِيَّة، والتى تُمَيِّزُ العَرَبَ عن غَيرِهِم مِن بَقِيَّة الشُعُوب الشرق – أوسَطِيَّة الغير عَرَبِيَّة، تلك الشُعُوبُ التى سَاهَمَ نَوابِغُها مِن المٌستَعربِين الذين اعتَنَقوا الإسلام بِإثر الفُتُوحات الإسلامِيَّة فى تَدوين العُلُوم العربيَّة، والتى تَدَرجَّت مابَين عُلُوم القِرآءات ورَسم المُصحَف حتَّى عُلُوم السِحر والطَلسَمات.


ويَذكُرُ العلَّامة الفيلسوف "عبد الرحمن ابن مُحمَّدٍ ابن خلدون" أنَّ (حَمَلَة العِلم فى الإسلام فى الإسلام أكثَرُهُم العَجَم)، وهُوَ ما يُدَلِّلُ على أنَّ العرب الذين كانوا قريِبى عَهدٍ بالبَدَاوة فى أزمِنَةِ الفُتُوحات الإسلاميَّة، لم يكونوا بِقَادِرِين على تدوين العُلُوم المُختلِفَة ووَضعِ أُسُسِها، مِثلَما كانَ الفُرسُ المُستَعربون مَثَلًا قادِرِين بِدَورِهِم على التصدِّى لتلك المهمة الجَسِيمة، والتى أفضَى تَصدِّيهم لها إلى وَضعِ أُسُس العُلُوم العربيَّة فى مُجمَلِها.

 وبعيدًا عن التنقيب فى ذلك السَهم الذى أحرَزَهُ الفُرسُ فى حَملِ عِلمِ الإسلام، فَإنَّهُ يَنبَغى الاعتراف بِأنَّ شُمُولِيَّة الحضارة العربيّة وتَكامُلِها يَرجِعَان إلى اشتراك كُلِّ مَن دَانَ بالإسلام وكانَ قَادِرًا على حَمل العِلم وتدوينِه فى مَدِّ التُراثِ العربِىِّ بِكَثيرٍ مِن أدَوَاتِه، والتى جَعَلَتهُ يَقودُ العَقلَ الإنسانِىَّ طِيلَةَ عَشرِ قُرُونٍ هِىَ عُمرُ ازدهار الحضارة العربيَّة.

وإذا ما أردَنا تَصَوُّرَ (وِحدَةِ المَعرِفَة ) عِندَ العَرَب، فَإنَّهُ يَكفينا أن نَتَصوَّر أنَّ الدَارِسَ فى الأزَمِنَة القديمة لِعُلُوم العرب كانَ يَبتَدِئُ بِاستظهار القُرآن الكريم، والذى يَحوى عُلُوم الأولِّين والآخِرين، ثُمَّ إنَّ ذلك الدَارِس كانَ يَذهَبُ لِتلقِّى عُلُوم اللُغَة والفِقه، مِثلَما كانَ يَتلقَّى فى ذات الوقت عُلُوم المَنطِق الرياضِيَّات، حَتَّى أنَّ بَعضَهُم لم يَكُن يَكتَفِى بِذَلك، بَل إنَّهُ كانَ يدرُسُ أيضًا فُنُونَ الفَلَكِ باستخدام أجهِزَتِهِ الدقيقة.

ويَذكُرُ العلَّامَةُ "رِفاعة رافِع الطهطاوِىِّ" فى كِتابِهِ "مناهِجُ الألباب المِصريَّة فى مَباهِجِ الآداب العصرِيَّة " أنَّ [ كُتُبَ الفِقهِ القديمة تَشتَمِلُ على كثيرٍ مِن المنافِع العُمُومِيَّة ]، وهُوَ ما يَعنى أنَّ الفقيه يُمكِنُ أن يَذكُرَ مَعلومَةً طِبِيَّةً مَثلًا فى مَعرِضِ شَرحِهِ لِرأىٍ فِقهِىٍّ، وذلك فى سبيل التدليل على تلك التوافُقِيَّة بَينَ كِلآ الأمرَين الوُجُودِىِّ والشَرعِىِّ، وذلك على اعتبار أنَّ مَصدَرَ كِلآ الأمريَن وَاحِدٌ.


كما ويَذكُرُ العلَّامَةُ الشيخ "عبد الرحمن ابن حَسَن الجبرتِىّ" أنَّهُ حَدَثَ فى عام 1161 هـ (1748 ةللمِيلاد). أنَّهُ قَد حَضَرَ إلى "مِصرَ" الوزير العالِم / أحمد باشا كور، وَالِيًا على البِلاد مِن قِبَلِ الدولة العُثمانِيَّة، وأنَّ ذلك الوَالِى الجديد قد اكتَشَفَ أنَّ طَلَبَة الأزَهر مُكِبِّين فقط على العُلُوم الشرعِيَّة وما يَلِيها مِن عُلُوم العربيَّة الأُخرَى، وأنَّهُم فى أغلَبِهم يُهمِلون عُلُومًا كالفَلَك والرياضِيَّات، وذلك بِرَغم لُزُوم تلك العُلُوم فى صَميم المسآئِل الشَرعِيَّة، كَمَعرِفَة مَواقِيت الصلاة، والأهِلَّة المُحدِّدَة لِمَواقيت الصِيَام. فَما كانَ مِن الشيخ "سُليمان المنصورِىّ"، أحَدُ عُلمآء الأزهَر فى تلك الفترة إلَّا أن أفهَمَ ذلك الوالِى أنَّ أغلب طُلَّاب الأزهر أهلُ قُرًى وأرياف، وأنَّ مُدَارَسَة تلك العُلُوم تَحتاجُ أدواتٍ دقيقةٍ وأُمُورًا عُطارِدِيَّةً لا تَنبغى لأىِّ أحَد، وأنَّ المُشَارَ إليهِ بالتَخصُّص فى تلك العُلُوم هُوَ الشيخ "حَسن ابن إبراهيم الجَبَرتِىِّ" – مُفتِى السادة الحَنَفِيَّة وشَيخُ رِوَاق الجَبَرتِيَّة بالأزهر الشريف – فَما كانَ مِن ذلك الوزير إلَّا أن سَارَع إلى دارِ الشيخ "حسن الجَبَرتَىّ" كَى يَأخُذَ العِلمَ على يَديَه فى الرياضِيَّات والفَلَك. وقد أثمَرَ أخذَهُ العِلمَ على ذلك الشيخ الفقيه الرِيَاضِىِّ إلى إتقان ذلك الوزير لِصِناعَة المَزاوِل الفَلَكِيَّة المُحدِّدَة بِدِقَّةٍ لِمَواقيت الصلاة، وقد قامَ ذلك الوزير بِإثرِ ذلك بِصِناعَةِ مِزوَلَةٍ عُلِّقَت أعلى السطح الغربِىِّ مِن الجامِع الأزهَر.

إنَّ مُحَاولة الكشف عن الإطَارِ التعريفِىِّ للحضارة العَرَبيّة يُمكِنُ أن يَندَرِجَ بِدَورِهِ فى إطَارٍ آخرَ مِن أُطُرِ المُقارَنة بين النواتِج العِلمِيَّة للحضارات المُختلفة، والتى عَاصَرَت الحضارة العربية الإسلامِيَّة، أو حتَّى انبَنَت عليها. ولَكِنَّ تلك المُقَارَنة لابُدَّ وأن تأخُذ فى اعتبارِها ذلك التُفَرُّد وتلك الخُصُوصِيَّة التى مَيَّزَت حَضَارتنا العربيّة فى نشأتَها وتَطوُّرِها. فَقَد انسَاحَت الفُتُوحات الإسلامِيَّة فى خِلالِ القرن الأولِّ الهِجرِىّ، كَى تَفتَحَ بِلادًا شاسِعَة المَسَاحة مُزدَهِرَة الحضارات فى "فارِس" و"الشأم"، و"مِصر"، وحتَّى فيما بَينَ النَهرَيَن.


وقد قال أحَدُ المُفَكِّرين: "إنَّ العَرَبَ قد فَتَحوا فى ثمانين سَنَةً ما لم يَفتَحهُ الرومانُ فى ثمانمائة سَنَة"، كما وأنَّ الحُكَّام العَرَب فى العُهُود الإسلامِيَّة الأُولَى لم يُفرِّقوا بَينَ عَرَبِىٍّ وأعجَمِىٍّ، فَقَد كانَ حُكمُهُم رَفِيقًا يَحمِلُ كثيرًا مِن المُساوَاة والعَدَالة، علاوةً على أنَّهُم قد حَكَموا أخصَبَ بِلاد العالَم وأعدَلِها مُناخًا، وقد تَفَاعَلَ المِزَاجُ العَرَبِىُّ الثاقِب المُعتَدِل التفكير فى خِلالِ تَشَكُلِ تلك الحضارة مَعَ ذلك الدَأب الذى أظهَرَهُ الأعاجِمُ الذين اعتَنَقوا الإسلام وآمنوا بِرِسالَتِهِ، ووَضعوا أُسُسَ عُلُومِه، وثَمَّنوا مِن مردُودِهِ العقلِىِّ، وصَنَّفوا وأفادوا واستفادوا. وقد نَشَأت فى ظِلِّ ذلك كُلِّهِ المراصِدُ الفَلَكِيَّةُ، ومعاهِدُ التعليم، ودُورُ الترجمة، وتلك الخُلوَاتُ المشهُودة فى غِيَاضِ "دمشق" و"القاهرة" و"سَمَرقَند"، والتى أفرَزَت عُلَمآءًا مِن أمثال "الفارابِىّ"، و"ابن سينا"، و"الحَسَن ابن الهَيثَم"، والذين وَضعُوا أُسُسَ عُلُومٍ كالمَناظِير، والطِبِّ، وأيضًا المُوسيقى. فَمَا بَينَ وَضعِ "الحَسَن ابن الهَيثَم" لِعِلمِ المناظِير وكيفِيَّات صِناعَةِ العَدَسات، والتى أفادَت مِنها المراصِدُ الفَلَكِيَّةُ التى قامَت ما بين "بُخَارَى" فى آسيا الوُسطَى و"إشبيلِيَّة" فى الأندلُس، وأيضًا فيما بَينَ وَضع "أبو الحُسين ابنِ سِينا" لأُسُسِ عِلم التشريح، والذى أفادَ مِنهُ "ابنُ النَفيس" فى استخلاصِهِ لِكَيفِيَّات تنظيم ضَغط الدَمِّ فى الجِسم البَشَرىّ، وأيضًا فيما بَينَ تطوير "إبراهيم المَوصِلِىِّ" لآلة العُود، وتَصميم "الفارابِىِّ" لآلة القانون ذاتَ الأوتار المُقسَّمَة أوزَاعًا، فإنَّهُ يُمكِنُ أن نَستَدرِكَ على ما قالهُ "أبو عُثمان الجاحِظ" فى كِتابِهِ "البَيانُ والتبيين" مِن أنَّ "الرَجُل كان يَبعَثُ بِوَلدِه إلى كُتَّاب الحَىّ فَيتعلَّمُ فيه مَبآدِئَ القِرآءة والكِتابَة، ويشدوا شَيئًا مِن قَواعِد النحو والصرف، ويَتناولُ طَرفًا مِن أُصُول الحِسَاب، ثُمَّ يستظهِرُ كِتاب الله الكريم استظهارًا تامَّا مُجوَّدًا مُرتَّلًا، وهُو فى خِلال ذلك يَتردَّدُ مع أترابِهِ على القاصِّ فيسمعُ مِنهُ أحداث الفُتُوح، وأنباء المَعارِك، وأخبار الأبطال، ومَقَاتِلَ الفُرسان، ومُفَاخرات الشُجعان، وسِيَرَ الغُزَاة والفاتِحين، ممزوجًا ذلك بالعِبَر والمواعِظ وإيرادُ أحوال الصالِحين وأطوار الزُهَّاد والنُسَّاك والمُتَّقِين. وبعد أن يأخُذَ مِن كُلِّ طَرفٍ مِن هذه المعلومات نَصيبَهُ الكافِى يُولِّى وَجهَهُ شَطرَ حَلَقات الدرس بالمساجِد العامَّة، والمعاهِد الجامِعَة، والمَدارِس الخاصَّة، فَيقومُ مِن حَلَقَة الفقيه إلى حَلَقَةِ المُحدِّث، ومِن مَجلِسِ اللُغَوِىِّ إلى سارِيَةِ النَسَّابة، ومِن حَضرَةِ الإخبارِىِّ إلى دَارَة المُتكَلِّم، ومن معهد المَنطِقِىِّ إلى مَجمَع الفلسَفِىِّ، ومِن مَحفَل الأديب إلى قاعة المُهَندِس، ومِن بين يَدَى المُفسِّر إلى حَظيرة الأُصُولِىِّ، ومِن غُرفة الرَاوِيَة إلى بيت الشاعِر، ومِن ديوان الكاتِب إلى صَاحِب النُجُوم، ومِن الأسطرُلابِىِّ إلى الجُغرافِىِّ، ومِن مَشهد الموسيقار إلى مَقعد المُغَنِّى، ومن عِندِ المِزمَار إلى دُكَّانة الوتَّار. الصِبيان والبنات فى ذلك سوآء، وإن كانت الغالبيَّةُ من الصِبيان دُونَ أخَوَاتِهم. حتى السُجُون فقد كان لأهلها حظٌّ من التعليم، وكان لَهُم مُعلمون يدخلون إليهم فى أوقاتٍ مُعيَّنة". (أ. ه).


ومِن ذلك، فإنَّهُ يتبيَّن أنَّ تلك الحضارة فى مُختَلَف دَوَرَاتِها، والتى استمرّت على مدار عشرة قُرُون، لم تَعرف التخصُّصَ فى العُلُوم بتلك الصُورة التى نَعرِفُها اليوم، وهى تلك الصُورة التى اكتسبناها حَصرًا مِن وَاقِعِ التفاعُل غير المدروس مع الحضارة الغربيّة. وهو ذلك التفاعُل الذى بدأ مُنذُ قُدُوم حملة نابليون بونابرت إلى مِصر فى شهر مُحرَّمٍ الحرام من عام 1213هـ (يوليه عام 1798 للميلاد)، وفى وَقتٍ كانت الحضارة العربيّة مُمَثلَّةً فى مُؤسَّسةِ الأزهر، إضافةً لِبَعض دُورِ العِلم الأُخرى فى "مصر وغيرها مِن البلاد الشرقيَّة، تَشهَدُ صحوَةً مَعرِفيَّةً تَمثَّلَت بِعُلمآءٍ يُشَارُ إليهم بالبَنان، من أمثال الرياضِىِّ الفَلَكِىِّ "حسن الجبرتىّ"، وفيلسوف العربيَّة "محمّد مُرتَضَى الزَبيدِىّ"، والذى أدرَجَ ضِمنَ قاموسِهِ اللُغَوِىِّ الشارِح، والمنعوت بـ "تاجِ العروس فى شرح جواهِر القاموس " زُبدَة الاشتقاقات اللازمة لِصِياغة مُفردات تلك الصحوة المُشَارُ إليها.

و يبقى أن نُؤكِّدَ أنَّ الحضارة العربيَّة الإسلامِيَّة كانت ولا تزالُ تَستَمِدُّ مُقوِّمَات وُجُودِها مِن ذلك المَعين المُتمثِّل فى القُرآن الكريم، والذى كانَ لأهل "مصر" الفضلُ الأكبر فى تدوين عُلُومِهِ، التى هى أكبر مِن أن تُحصَى، وذلك بين جَنَبات الأزهر وغيرِهِ مِن تلك الصُرُوح التى أنشأوها.

    الاكثر قراءة