تنشر بوابة "الهلال اليوم"، قصة "للعرض فقط"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.
للعرض فقطأمام شرفة حجرتها تقف محدّقة بالفراغ المتماثل أمامها، عاجزة عن تكوين صورة دقيقة للمشهد المقابل لها عن بعد.
تقف بأنوثة مبهرة تسلب الأنظار، ترتدي ثوبًا من البياض يدل لمن ينظر على خفة روحها يتخلله تموجات خفيفة بلون الزهر يتمايل مع نسمات هواء عليل تداعب شعرها الحالك السواد المرسل على كتفيها بعذوبة، لتبدو كطفلة في سنيّها الأولى من الحياة.
تورد خديها واتساع عينيها وضآلة عودها لا يجعلك تدرك أن من أمامك شابة فى السادسة والعشرين، يخترق أذنها أصوات تعلم ولا تعلم مصدرها.
ما هذه اللوحة؟!
هتاف أطفال يركضون خلف بعضهم، يدورون حول أهلهم، يتضاحكون ويتباكون، أبواق سيارات ملّت الإنتظار والصبر، فانطلقت تهتف بمن أمامها، كما تهتف هي بالوقت.
صيحات شباب يركلون هواءً مستديرًا حبسه إطار مطاطي، كما ظلت هي حبيسة طقوس مملة.
وزمجرة كرة تقاذفتها الأرجل متضجرة من حالها المزري، كما تشعر الآن بما تحمله من روحها.
رفرفة عصافير ترجو العودة لديارها قبل أن تنطفيء أضواء النهار وتشتعل المصابيح الجانبية، كما يرجو قلبها.
مواء قطط تستجلب عطف الرحماء من بني البشر ليلقوا إليها بكسرة خبز أو بقايا من لحم وعظم وربما شربة ماء أو سقيا حليب تحيِها.
وهناك مواء آخر بداخل قطط شريدة تحتاج إلى الدفء، والدفء فقط، لا شيء سواه ليقيها الموت وحدها.
ضحكات مراهقات تزهو كل واحدة منهن بأفضل ما اشتراه لها والدها وتصف أروع ما أتقنته من لوحات ترسمها بأصابع ماهرة على صفحة وجهها، وأخريات يتحدثن في أمور الأزياء والأشكال والألوان والجمال.
ابتهالات أمهات يرفعن الأكف من منازل مجاورة ويطلن الدعاء إلى الله بأن يحفظ أبناءهم ويسعد حياتهم، كما سهرن عليها طوال صباهن وشبابهن
تقريع آباء يوجهون أبناءهم للصواب ويزجرونهم عن الزلل، ويمنحونهم أطايب الحكمة التي اقتبسوها من الحياة، بالطبع دون أن يستلزم الأمر أن يأتوا بها.
تشد كفها الصغير على السور الماثل أمامها وترسم ابتسامة سعادة وود، وكأنها قد شاركت هؤلاء جميعهم أوقاتهم واحتوت انفعالاتهم فى قلبها، بينما تتشتت حركة بؤبؤيها الجميلين بحسب الأصوات التي تخترق طبلة أذنيها، ثم ما تلبث أن تعود أدراجها وتتلمس طريقها نحو سريرها المتوسط حجرتها بعد أن أغلقت شرفتها وأسدلت الستائر.
بينما في الجهة المقابلة، يقف هو، متجاهلًا الدوامة التى تحوم حوله، أو صوبها.
يرى منها ما لا تراه منه. يحفظ بدقة تفاصيلها، بينما هي تفتقر لامتلاك أدنى صورة عنه.
يراها وبنفس الموعد، منذ انتقل لهذا الحي، كما اعتاد أن يفعل منذ وقعت عيناه عليها فى إحدى الصباحات.
يتأمل براءتها وينتشي بسحرها، دون أن يثير ضجيجًا يفسد هالتا الصفاء والنقاء اللتان تحومان حولها أمامه.
يود لو أن يكون شخصه هو من ارتكزت عليه أفكارها، أن يكون لطفه هو من يرسم أجمل البسمات على ثغرها. أن يكون حضنه هو من يلملم رجفتها الهادئة، أن تكون يده هي المنديل الذى يمسح حرارة دموعها التي يراها أحيانا من نافذتها. أن تكون ذراعه هي التي تستند إليها كفها الرقيقة بدلًا من ذاك الجماد البارد، أن تكون أنفاسه هي من تعبث حانية بخصلات شعرها، أن يقف بجوارها ليرى المنظر من منظورها ويعيش اللحظة كما تعيشها يوميًا.
وكالعادة، أغلقت شرفتها أمام أمنياته!
ليهب واقفًا، عازمًا أمره على إبلاغ أهله بوجوب التودد الى عائلتها وزيارتهم بحجة أنهم جيران قدامى، ولا يدركون بعضهم البعض حتى الآن ويرغبون بتكوين علاقة حميمة مع جيرانهم مثلًا كما تجري العادات، كما أضاف بشوق سرًا لأمه بعزمه على اختيارها لتقاسمه ويقاسمها حياتها.
كان يجول بعينيه فى كل ركن من منزلها حين وصلوا، ثم نهضت الأم لتخبرها بزيارتهم الطارئة، وتجبرها على القدوم، فهى وكما عرف عنها منذ أربع سنوات لا تحبذ الجلوس أمام الزوار، "لكن الآن يكفيها هروبًا".
ما لبث الزوار أن سمعوا قرعًا على الأرض، لتلج بعده فتاة أقل ما يقال عنها، فاتنة.
وهي تمسك بيمينها عكازًا ليدلها على طريقها.
ألقت التحية، واتخذت من أقرب مقعد لها مكانًا، بينما الصدمة فغرت وجوه الحاضرين.
كانتا تلك العينين الرائعتين، لا تبصران.
وكان هذا أول الغيث بالنسبة لهم، إنها أرملة وثكلى، فقدت زوجها وطفلها في نفس الحادث الذي أودى ببصرها، وجعل الظلام يلفها أينما كانت.
أما هو، فبذات الشوق والحرارة التى رغبها بها وتطلع إليها مرارًا كلوحة كاملة، أبدل رغبته العنيفة بالارتباط بها، لحقد متأجج يصوبه نحوها. الكاذبة المقنّعة! ، ألا يكفيها عيب واحد - كما يزعم - لتضم تحت قناع براءتها ثلاث عيوب؟!
أصدر أمرًا بأنها امرأة معيبة، لا تصلح للرفقة أو الزواج. هي امرأة للحب بالعين فقط، شأنها فى ذلك شأن كل ما تحل عليه لعنتها الزائلة، جمالها. حطم هالته حولها كأصنام المعابد، التي تطير رأسها بضربة فأس واحدة عند تحلل قوامها دون أن يرمش قلب نسّاكها البارين.
تجاهل وبقسوة، مسحة الألم التي تمنى إزالتها، الدموع التى تمنى تجفيفها، الوحدة والوحشة اللتان تمنى إبعادهما، الغربة التي أراد توطينها، ركـلها، وتركها تجدد أحزانها وتعزي نفسها مجددًا، وتمنح قلبها بضعًا من الثبات، كما اعتادت لبقية عمرها.
بينما كان يعاود المرور من أمام شرفتها حانقًا: "لو أنني فقط أعثر على امرأة بقدر جمالها، تصلح للحياة".