الأربعاء 29 مايو 2024

جنوب السودان.. الموت يمشى على قدمين

3-5-2017 | 12:27

بقلم –  عادل سعد

شاهدت فيلما تسجيليا حيّا عن آكلى لحوم البشر فى إفريقيا بمنطقة جنوب الصحراء، واصطيادهم لفتاة بيضاء وصلبها على شجرة واستمتاعهم بأكلها حية ودق طبول النصر وتقطيع لحمها والتهامها قطعة قطعة، وهى تتلوى حتى ذابت من الألم.

فيلم تسجيلى آخر كان عن شذوذ المليارديرات فى أوربا الذين ينفقون الملايين لاغتصاب أطفال رضع أعمارهم أقل من عامين وأحيانا أقل من عام، والذين يوافق أهلهم من الفقراء مقابل المال على تقديمهم لهؤلاء السفلة قطعا من اللحم داخل لفافات المهد.

كان ذلك – على ما أتذكر – أواخر الثمانينيات من القرن الماضى، عندما سرت موجة هذا النوع من الفنون الذى يثير التقزز والغثيان والرغبة فى التقيوء.

تذكرت كل هذا عند قراءة رواية «يوم انتحار عزرائيل» للكاتب جنوب السودانى آرثر غابرييل ياك، لكن ما جرى فى تلك الرواية يزيد بشاعة عن كل ما ذكرت.

فى آخر الرواية أطلق الكولونيل فرانكو رصاصة على رأسه. كان لا يقتل نفسه. بل يقتل كل ما يجرى الآن فى دولة جنوب السودان، إنه رأسه الذى يحمله بين يديه طوال الرواية وهو يصدر الأوامر بالقتل، وكان شاهدا على أنهار الدم والتصفيات العرقية وأطنان القتلى والتمثيل بجثث الموتى وطرحهم فى العراء بلا دفن حتى صارت الضباع بلا عمل وعجزت الغربان عن الطيران.

والرواية من ناحية الشخصيات قصة لثلاثة أطفال بالمدرسة الابتدائية، الأول اغتصبه المعلم. انتهز مدرس الفصل غياب حرس المدرسة لاقتراب العيد. وسمع الأطفال صوتا يئن. جرمايا المغتصب تقدم فى العمر وصار عقيدا فى جيش التحرير. وحصل على كل المكاسب ولم يحارب أبدا. وكان أفضل من يتكلم عن المعارك والتضحيات. وفوق كل هذا قرر اغتصاب كل العالم. وسرت بين جنوده همهمة بأن العقيد يغتصب الأسرى ويهتك الموتى. فصدر قرار بنقله لإثيوبيا وهناك تزوج أمهرية فاتنة وخانها مع غلام يفوقها جمالا على أريكتها الوثيرة، فأصرت على الطلاق.

الطفل الثانى فرانكو لم يغتصبه المدرس، كان يصحو على صوت أمه تصرخ وتئن وكأنها تموت، حتى يتجمع الجيران والمارة من الفزع. فقرر أن ينام فى حضنها. لكنه رآها عارية تتعذب وتجلد بسوط من جلد الخرتيت وتقيّد بالأغلال وتكوى بالنار، قبل أن ينام معها ذلك المخيف وتنطلق صيحاتها.

كانت أمه قد تزوجت من هذا الرجل وهى حامل فى فرانكو وعاش يعتقد أن هذا أبوه.

وكان أغرب ما هز كيانه الصغير أن أمه فى الصباح تستيقظ يانعة تغنى للحب، بل إنها تلملم حديد التعذيب بعناية وتضع السوط فى القليل من الزيت حتى لا يبلى.

ثالث الأطفال وليم لم يصبح عسكريا لكنه أصبح يعمل بالأمم المتحدة متهما بالجهل من الأجانب وبالخيانة من الوطنيين، وعاش عاجزا عن الإنجاب ينتقد ما يفعله العسكر بالناس.

من الصفحة الأولى تفتح الرواية على مشهد فرانكو المكلف من قبيلة الدنكا والجيش بقتل الآلاف من قبيلة النوير بقسم الشرطة بلا تهمة ولا محاكمة، ولأنه يشعر بالضآلة وبالتهميش يصدر أوامره بحصدهم جميعا بالرصاص ولما نفدت الذخيرة اكتشف هو وجنوده أن القتل بالسونكى والحراب والخناجر يحقق متعة أكبر للمقاتلين.

صار فرانكو بطلا فى الجيش. وهلل أحد الجنود وهو يقطع لسان أسير من النوير، وتبرز آخر الخراء فى فمه.

وفى الاتجاه المضاد خرج الكجورى - نبى النوير- يبشرهم بأن عبادة الأسلاف تطل فوق رؤوسهم ومن يموت منهم يعيده جده الأكبر للحياة فى أفضل تقويم.

وفى كل الأحوال وطوال الوقت يبدو د جون قرنق ملهم الثورة، والذى مات فى حادث طائرة مدبر. تمثالا عاجزا عن التدخل لإيقاف القتل بين أصدقاء الأمس المتحالفين على الثورة ضد عبودية شمال السودان.

وهكذا اندلعت شرارة الجهاد عشرات الآلاف من النوير دهنوا رؤوسهم بروث الجاموس وأجسادهم بالرماد وخرجوا بالبنادق والفئوس والحراب لقتل كل من ينتمى للدينكا.

اجتاحوا (بور) المدينة قتلا وتمزيقا، وتبولوا على الجثث. ولم يبق صوت حشرجة ولا طفل يبكى.

وفى المدينة الخالية (بور) قتلوا كل مجانين الشوارع والمرضى فى المستشفى.

وراحوا للكنيسة ووجدوا هناك مسنات الدينكا اللاتى تجاوزن الأربعين، يحتمين بالرب وبالعذراء، فخلعوا عنهن ملابسهن وتناوب الجنود على اغتصابهن أمام الهيكل وتحت صورة مريم عدة مرات. وظن بعضهن أنها النجاة. لكن الجنود أطلقوا عليهن النار، وكسروا الصلبان وحشروها فى موخراتهن وفروجهن.

طابور طويل من الفتيات والشباب فر هاربا قبل وصول الجيش الأبيض، وقبل أن يصل لأقرب قرية لحقت بمؤخرته القوات واندفع الجميع نحو النيل للهروب على جزر النهر وهم لا يعرفون السباحة ويحملون أغراضهم وتنتظرهم التماسيح.

تقرر قيادة الجيش إرسال الكولونيل جرمايا لتحرير مدينة بور من الجيش الأبيض ويقع فى عدة كمائن ويتشتت، وتغضب القيادة وترسل تعزيزات عملاقة بقيادة فرانكو وقوات التحالف الأوغندية، ويندفع الجيش الأبيض فى بلاهة نحو المعركة فتحصدهم المدافع والرشاشات السريعة. ويعود فرانكو بطلا حربيا فريدا، بينما يتفرغ صديقه جرمايا للتحدث عن التضحيات والشجاعة لوسائل الإعلام.

يترقى فرانكو – ومعه جرمايا بالطبع – لرتبة كولونيل. لكنه كان يعيش صراعا نفسيا آخر لأن شقيقته الطبيبة ربيكا تزوجت طبيبا من النوير، وعندما عارضها أهلها أطلت برأسها من بين النساء قائلة: «أتزوجه.. أو أقتل نفسى»، ووسط فوضى الأحداث تسرب شريط تسجيلى عن اغتصاب ربيكا عدة مرات وهى تتمنى قتلها لأنها من الدينكا، ويذهب فرانكو لحضور زواج أخته الصغرى من نجل سلطان دينكا بعد أن قدم ٢٠٠ رأس ماشية مهرا لأهل العروس، ويعترض فرانكو على زواج شقيقته الجامعية من شاب جاهل وهى لا تعرف، فيقف أحد الأعمام الطامعين فى المهر ويطعنه أمام الجميع ويخبره بأنه بلا صفة وليس شقيقها ولا من حقه التدخل.. تنهار العروس حينما تكتشف زواجها من جاهل وتسقط وتموت.

ويعود فرانكو ذليلا إلى خاله يسأله عن أبيه فيخبره أنه كان موظفا بالبوسطة العمومية ومن النوير.

يرجع فرانكو لقيادة الجيش مهموما ويصدر له الأمر باحتلال ملكال بعد أن احتلها النوير ويكتشف أن الدكتورة ربيكا شقيقته عادت بعد أن رحمها عميد من جيش النوير وأخفاها بمبنى الأمم المتحدة، ويتأمل فرانكو كل ماجرى. وتتابع جثث من قتلهم أمام عينيه من أقاربه وقبيلته، وعندما يتجمع الناس على صوت طلقة حاسمة فى مكتبه، يجدونه مضرجا فى دمه.