الخميس 26 سبتمبر 2024

رسائل متضاربة من واشنطن.. التحدى الأكبر.. كيف نواجه الانحياز والتدليس السياسى الأمريكى؟

3-5-2017 | 13:14

بقلم – د. حسن أبوطالب

لم أستغرب كثيرا حين قرأت نص جلسة الاستماع عن مصر، التى عقدتها إحدى اللجان الفرعية للكونجرس بمجلس الشيوخ الأمريكى، التى تحدث فيها ثلاثة من الأعضاء وهم ميشيل دِن، وتوم ماليونسكي، وإليوت أبرامز، والذين كالوا لمصر الكثير من الانتقادات الباطلة والاتهامات بلا دليل، وأعلنوا مواقف عدائية بكل معنى الكلمة ضد الجيش ونظام الحكم، الذى وصفوه بالانقلاب، والرئيس عبد الفتاح السيسى والدور الإقليمى لمصر، وفى الوقت نفسه تجاهلوا تمامًا أى إشارة إلى الأنشطة الإرهابية، التى تقوم بها منظمات أعلنت انتماءها من قبل للقاعدة والسلفية الجهادية ثم تنظيم داعش الإرهابى، واعتبروا أن ما يجرى فى سيناء هو مواجهة بين الجيش، الذى يستخدم قوة مفرطة ضد ما وصفوه «تمرد إسلامى»، وهو تعبير قصد من ورائه المساواة بين الإرهابيين وبين جيش مصر، وبالتالى إضفاء صفة مشروعة على هذا النشاط الإرهابى وله مبرراته، التى ساقوها فى ضعف التنمية فى سيناء وتهميش متعمد لأبنائها.

 

 

لم أستغرب لهذا المحتوى غير المنصف، الذى يرى الأمور من زاوية واحدة قوامها الإدانة المسبقة وإلقاء التراب على كل تطور حدث منذ ٣٠ يونيه ٢٠١٣، والتقليل من قيمة مصر الاستراتيجية، والتركيز على رؤية محددة لما يسمونه بحقوق الإنسان لا تراعى أبدا التطورات الحادثة فى مصر، فضلا عن إيراد بيانات بلا دليل عمن يصفونهم المعتقلين قسرا.

فى المقابل جاء بيان المتحدث الرسمى للخارجية المصرية للرد على هذه الجلسة وما دار فيها باعتبارها غير منصفة، وتعبير عن موقف ممنهج يستهدف الإضرار بالعلاقات بين البلدين، والمتحدثون من اتجاه واحد، وليسوا كما جرت العادة، أن يمثلوا تيارات مختلفة.. وإجمالا الرد الرسمى لم يكن على مستوى الحدث.

استهداف الجيش المصرى

أية قراءة منصفة ومتأنية لما جاء فى الشهادات الثلاث المنحازة تكشف عن أن أحد أهم الأهداف هو استهداف الجيش المصرى وتصويره بأنه لا يقبل النصائح الأمريكية لتطوير نفسه، وأن يصبح جيشًا حديثًا وفقا للمقاييس، التى يريدون لمصر أن تتبناها رغما عن إرادتها، ومن ثم إقناع الكونجرس الأمريكى بأن الجيش المصرى ليس بحاجة إلى أسلحة حديثة فى مجال الحرب التقليدية، لأنه لن يخوض هذه الحرب فى المستقبل وفقا لهم، وإنه بحاجة فقط إلى أسلحة خفيفة وتطور تكنولوجى وتدريبات على مواجهة الإرهاب، وبالتالى إعادة هيكلة المساعدات العسكرية، لتصب فى هذا الهدف، أى تفكيك الجيش المصرى.

وفى الحقيقة فإن تفكيك الجيش المصرى هو هدف أمريكى أصيل منذ عقدين على الأقل تحت زعم ضرورة تطويره، ونقطة البداية هى الترويج بأن مصر ليس لديها أعداء حولها، والإشارة هنا تحديدًا هى إلى إسرائيل، وبالتالى لن تخوض حروبًا، ولذا فهى– أى مصر- ليست بحاجة إلى طائرات أو مدافع أو دبابات، بل مجرد معدات وأسلحة خفيفة وكتائب محدودة العدد سريعة الانتقال إلى مواقع الإرهابيين.. وفى ٢٠١٢ وأثناء تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة البلاد بصورة مؤقتة، نشر موقع «ويكيليكس» وثائق عبارة عن مراسلات من السفارة الأمريكية بالقاهرة إلى واشنطن تحدثت عن نتائج زيارة قادة عسكريين وبعض أعضاء الكونجرس لمصر ولكنها جاءت مخيبة للآمال من وجهة نظر البيت الأبيض آنذاك، إذا طالب الوفد الأمريكى الرئيس الأسبق مبارك بإعادة النظر فى طلبات مصر من الأسلحة الأمريكية الثقيلة والطائرات الحديثة وأجهزة التوجيه إلى أسلحة خفيفة، فكان رد مبارك عليهم بالرجوع إلى المشير طنطاوى، قائد الجيش، والاستماع إلى وجهة نظره، وبالفعل رفض المشير طنطاوى الحجج التى قالها أعضاء الوفد الأمريكى، وأصر على عدم تطبيق أى نصيحة أمريكية، وكذلك ضرورة حصول مصر على ما تقدمت به من أسلحة حديثة، مؤكدا أن جيش مصر يعرف شئونه والتحديات، التى تحيط به أكثر من أى طرف آخر، وهو الأمر الذى اعتبرته الوثيقة مخيبًا للآمال ورفضًا لنصائح أمريكية تستهدف تطوير الجيش المصرى، أو بالأحرى تفكيكه وجعله جيشا مكونا من ميليشيات أو قوات مجزأة لا يمكنها أن تخوض حربا ضد أى من أعدائها المحتملين.

وما قالته ميشيل دن، مديرة برنامج الشرق الأوسط بمعهد كارنيجى للسلام الدولي، أمام اللجنة الفرعية للاعتمادات بمجلس الشيوخ الأمريكى، وشاركها فيها المتحدثان الآخران، هو تكرار ممجوج لهذه الفكرة البائسة، والتى تروج لها بخبث فى كثير من التقارير، التى ينشرها مركز كارنيجى المُعادى لمصر جملة وتفصيلا، والذى لا يتوانى عن التشكيك فى جميع تقاريره المنشورة فى كل خطوة تخوطها مصر نحو الاستقرار والتماسك المؤسسى والمجتمعى.. ومما استخدمته دِن فى شهادتها ويعد تكرارا بالنص والفكرة والجوهر لما اعتادت عليه من إساءات لمصر بعد ٣٠ يونيه ٢٠١٣ فى كل التقارير، التى نشرتها من قبل، هو وصفها لما يحدث من إرهاب فى سيناء باعتباره تعبيرًا عن تمرد من الأهالى ضد الجيش وضد قوات الأمن، وأن هذا التمرد حسب وصفها ناتج عن السياسات، التى طبقتها مصر بعد العام ٢٠١٣، وكأن الإرهاب، الذى انتشر فى الإقليم ككل، وكان لمصر نصيب كبير منه قبل ٢٠١٣ ليس موجودًا فى قاموس السيدة دِن، التى تكرر مزاعم عن القتل العشوائى أو خارج القانون واختفاء المئات قسرًا، والأكثر غرابة واستهجانا أنها تبرر الهجمات على الكنائس فى مصر باعتبارها مجرد نتاج لهذا التمرد المزعوم ولسوء الوضع الاقتصادى والتحول للراديكالية.

إضفاء الشرعية على الإرهاب والإرهابيين

ويعكس استخدام تعبير التمرد هنا محاولة بائسة لإضفاء شرعية على إرهاب داعش وبيت المقدس والمجموعات الجهادية العنيفة، التى سعت إلى السيطرة على أجزاء من سيناء وإخراجها من عباءة الدولة المصرية، وهو ما فشلت فيه ولن تستطيع أن تحققه مهما كانت الأموال، التى تنفقها والجهود، التى تبذلها دوائر أمريكية وغربية وصهيونية سعيًا وراء هذا الهدف الخبيث.. ومما يؤسف له أن السيدة دٍن ترى الأمر بعين سوداوية، وتعتبر داعش وأخواتها تمردًا مشروعًا، وفى ذلك سقطة سياسية وفكرية كبيرة، وإن كنت أعتقد أنها تعكس الترابط العضوى بين تلك المراكز البحثية وبين المشروعات الإرهابية فى المنطقة، التى تستهدف إشاعة الفوضى فى عموم الإقليم وإسقاط الدول، تمهيدًا لتقسيمها وفقا للمشروعات الأمريكية بعيدة المدى لمصر ولغيرها من الدول العربية.

وفى الوقت الذى تقوم فيه الولايات المتحدة بإرسال المزيد من الجنود والأسلحة الحديثة والفتاكة ورفع المخصصات المالية لعملياتها العسكرية فى العراق وسوريا وتجريب أكثر أنواع القنابل فتكا وقتلا للبشر والحجر بزعم محاربة داعش، وما يترتب على ذلك من مآس إنسانية يندى لها الجبين، لا يحرك أدنى شعور بالأسف لدى السيدة دِن وأمثالها.. أما ما يبذله الجيش المصرى وقوات الأمن من تضحيات لمحاربة الإرهاب بأنواعه فليس محل تقدير أو حتى مراعاة من قبل دِن الفاقدة للموضوعية والأمانة العلمية.

تناقضات الاقتصاد السيئ والمجتمع المدنى المكلوم

النيل من الجيش المصرى يواكبه إضفاء تحليل متناقض بالنسبة للوضع الاقتصادى وتكرارًا لمزاعم أن هناك حملة قاسية ضد منظمات المجتمع المدنى الأمريكية، التى تنفذ برامج مساعدة فى مصر، والمنظمات أو الأفراد العاملين معها، وهو سلوك لا يصدر عن شريك فى التنمية، حسب قولها، وكلنا نعرف أن هناك بالفعل عددًا من المنظمات الأمريكية عملت فى مصر، ولكنها لم تكن بريئة ولا تنموية تمامًا كما تزعم السيدة دِن، بل كان بعضها ولن نقول جميعها يعمل بعيدا عن أى متابعة من أى جهة رسمية وكأن أرض مصر سداح مداح، وحين اتخذت الحكومة الإجراءات القانونية لمعرفة من يفعل ماذا، وما الأهداف وكيف تأتى الأموال وكيف تُصرف، هاج الأمريكيون وماجوا، لأنهم ببساطة يريدون العمل بكل فوضى وبعيدا عن أى رقابة.. والمؤكد أن السيدة دِن وغيرها تعلم تمامًا أن حكومة بلادها الرصينة وبعد هجمات سبتمبر ٢٠١١، وضعت قوانين عديدة للسيطرة التامة على عمل المنظمات المدنية، لاسيما التى يعمل بها أفراد أمريكيون من أصول شرق أوسطية، كما داهم الأمن الأمريكى العديد من هذه الجمعيات وأغلقتها تمامًا واعتقل العديد من العاملين فيها، كما صادر أموالهم، وكل ذلك بزعم حماية الأمن الوطنى الأمريكى، ولم يعترض على ذلك أى مركز بحثى مثل كارنيجى أو غيره، بل بارك الجميع هذه الإجراءات رغم ما انطوت عليه من تناقض فاضح مع القانون الأمريكى نفسه.. وحين تأخذ مصر من الإجراءات، التى تحول دون الاستخدام السيئ للأموال والبرامج الآتية من الخارج، تعتبره دِن وأمثالها شيئا رديئا ومرفوضا، فى موقف عملى يعكس تناقضا فاضحا وسلوكا استعماريا وكأننا ما زلنا نعيش فى قرون الفتوحات الاستعمارية واستغلال موارد الآخرين واستباحة حقوقهم.

وفى السياق ذاته تتباكى السيدة دِن على وجود آثار جانبية لبرنامج الإصلاح الاقتصادى الذى بدأت مصر تطبيقه ومن أبرز خطواته تعويم العملة المصرية، إذ تعتبر أن تلك الخطوة أيدتها حكومة بلادها، ولكنها تعتبرها غير كافية وبحاجة لخطوات أخرى لجذب الاستثمار ورفع كفاءة العمال وتطوير التعليم، وإلا أصبح الأمر من وجهة نظرها مزيدًا من المعاناة، التى لا طائل من ورائها، التى ربما غذت ما تعتبره التمرد على المدى الطويل.. ومثل هذا التباكى المعتمد على خلط الأوراق يعطينا فكرة كيف يوجه بعض الأمريكيين سهامهم غير الشريفة إلى مصر وشعبها. فنحن هنا فى مصر، سواء مواطنين أو مسؤولين، ندرك تمامًا أن الإصلاح الاقتصادى لا بديل عنه، وأنه يتضمن خطوات صعبة وتضحيات كبيرة، وأن الإصلاح الحقيقى لن يتحقق إلا من خلال خطوات متعددة من بينها الاستثمار وتطوير التعليم العام والفنى وإفساح المجال أكثر وأكثر للقطاع الخاص المخلص والراغب فى تنمية بلده وتحسين أحوالها.. ومعروف للجميع أن خطط تطوير التعليم لن تأتى نتائجها بين يوم وليلة، وأن تطوير التشريعات يتطلب حوارًا مجتمعيًا قد يأخ بعض الوقت، وأن تغيير قناعات وسلوكيات المجتمع تحتاج إلى مدى زمنى، وكل ذلك يحدث الآن، وننتظر ثماره الإيجابية مع مرور الزمن.. لكن السيدة دِن تعكس الآية وتعطينا نصائحها السوداء لغرض فى نفس يعقوب.

الجهل الفاضح بالدور الإقليمى لمصر

لم تخرج شهادة إليوت أبرامز، الزميل بمجلس دراسات الشرق الأوسط للعلاقات الخارجية من حيث المضمون والهدف عما قالته ميشيل دِن على النحو المشار إليه، وبما عكس تناغمًا سوداويًا فريدًا تجاه مصر وكفاحها من أجل الحرية.. ومما قاله اليوت «إنَّ الولايات المتحدة كانت إذا أرادت تحقيق شيئًا، أو حجبه، فى جامعة الدول العربية، فعادة ما كان الأمر لا يستغرق أكثر من محادثة مع الرئيس المصرى.. كانت مصر محورية بالنسبة إلى «عملية السلام» الإسرائيلية الفلسطينية.

أما اليوم، فليس لمصر دور هام فيما يتعلق باليمن أو العراق أو سوريا، بل لم يعد لها دور فى الوساطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.. ومثل هذه الكلمات تعكس فى واقع الحال جهلا فاضحا بمفهوم الدور الإقليمى والعالمى لأية قوة فى عالمنا المعاصر، كما تعكس قصورا علميا فى فهم القضايا والأزمات والحروب، التى تعيشها المنطقة العربية، التى فجرتها الولايات المتحدة نفسها ولم تعد قادرة على السيطرة على أى منها، ورغم فارق القوة والنفوذ والتأثير بين الولايات المتحدة وبين أى قوة عالمية أو إقليمية، ورغم الفشل المتكرر، الذى تعانى منه السياسات الأمريكية فلم يقل أحد أن الولايات المتحدة لم يعد لها دور أو أنها فقدت تأثيرها.. فحتى الأفراد الآن أصبحوا فاعلين وقادرين على خلط الأوراق وإثارة المشكلات المعقدة حتى بالنسبة لدول كبرى وذات إمكانات هائلة.. وبالنسبة لمصر، فنحن ندرك تمامًا أن الدور ليس مجرد تعبير يطلق فى الفضاء، وليس مجرد حركة فى الهواء، أو تصريحات رنانة وطائشة أحيانا كالتغريدات، التى يقولها أحيانا مسئولون عالميون كبار، وإنما الدور الحقيقى والفعال هو الفعل المسئول والقادر على ضبط أداء الذات والإقليم فى آن واحد، وخلق نموذج يؤثر فى الغير دون صخب، وهو ما تفعله مصر، ومن لا يرى ذلك فالعيب ليس فينا وإنما فى الجهل، الذى يصيب هؤلاء القوم.

الوساطة لمجرد الوساطة.. مرفوضة

أما مسألة أن مصر كان لها دور مهم فى السابق فى الوساطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولم يعد الأمر كذلك الآن، فليقل لنا السيد إليوت ما الذى فعله الرئيس أوباما طوال فترتين دامتا ثمانية أعوام لم يحدث فيها أى نوع من التقدم أو حتى الحديث الجاد بين أطراف الصراع، وليقل لنا أيضًا ما الذى يفعله الآن الرئيس ترامب، وهل المطلوب من مصر أن تقوم بوساطة لمجرد الوساطة حتى يقول سيادته بأن مصر لها دور فاعل، أم تقوم بجهد فاعل ومؤثر يتطلب التعاون من الجميع، والأمر نفسه ينطبق على باقى الأزمات العربية، والتى تلعب فيها الولايات المتحدة أدوارا سلبية بامتياز بحيث تحول دون تحقيق الحد الأدنى من إمكانية التقدم نحو حلول سلمية مقبولة من الجميع.

نموذج آخر من خلط الأوراق تفضل به السيد إليوت، إذ يقول «وقال أبرامز: إنه على الرغم من عدم إمكانية التشكيك فى رغبة الحكومة المصرية فى القضاء على الإرهاب وهزيمة داعش فى سيناء، فإنَّ استراتيجيتها تبدو فاشلة، وإنَّ الهجمات الإرهابية، التى أصبحت روتينية، صارت تصاحبها ردود أفعال مصرية عنيفة ينتج عنها ضحايا مدنيون»، هكذا ببساطة يقرر السيد إبرامز أن استراتيجية مواجهة الإرهاب فى مصر فاشلة لأنها توقع ضحايا.. ففى أى حرب أو مواجهة هناك ضحايا، تلك حقيية لا ينكرها تلميذ فى الابتدائية، وليس باحثا كبيرا فى معهد مرموق. ثم هل الضحايا الذين يقعون نتيجة المواجهة أم نتيجة الأعمال الإرهابية، ثم الأهم من ذلك ألم يقع ضحايا من المدنيين الأبرياء جراء الأعمال العسكرية الأمريكية المسماة بالحرب ضد داعش فى العراق وسوريا، والتى استمرت لمدة ثلاث سنوات حتى الآن وما زالت لم تحقق سوى الفتات من أهدافها المعلنة؟ ثم أى تحليل منصف لما جرى فى مصر، يرى أن الأعمال الإرهابية تناقصت عما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، وأنها باتت تعتمد استراتيجية الذئاب المنفردة فى غالبيتها بما يعنى تشتت تلك التنظيمات نتيجة الضربات الأمنية، فضلا عن أن قوى الأمن المصرية تكتشف الآن مسبقا الكثير من محاولات الخلايا الإرهابية قبل وقوعها، نتيجة تطور قدرات الاستخبارات وجمع المعلومات بعد الترهل، الذى أحدثه حكم الإخوان فى الداخلية وغيرها، فكيف يمكن أن نصف هذه الاستراتيجية بالفشل؟

سوء التقدير وسوء الطوية

إنه سوء التقدير وسوء الطوية وتعمد التشويه ولا شىء غير ذلك. وهو ما يتضح أكثر فى قول السيد إليوت فى تفسير ما يراه انتشار الإرهاب «إلى جانب عدم تنفيذ أية مشروعات تنمية فى شمال سيناء منذ أربعين عامًا.. وهذه الطريقة لا يمكن بها كسب ولاء المواطنين ضد الإرهابيين، فمصر تتصرف بطريقة سوف تجعل منها مصنعًا للجهاديين».. وبالقطع فإن أى متابع منصف لما يجرى على أرض سيناء يعرف أن هناك استراتيجية للتنمية الشاملة فى هذا الجزء العزيز من الوطن، وهناك مشروعات قومية كبرى جار تنفيذها والبعض منها فى مراحله الأخيرة، وسبدأ العمل قريبا، وأبرزها المشروعات الخاصة بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والأنفاق التى تربط بين سيناء والوادى، والعديد من المصانع ومشروعات التعدين ومطارين كبيريْن فى المليز ورأس سدر وإنشاء تجمعات بدوية يحوى كل منها تجمعا من ١٥٠ بيتا و٥٠٠ فدان زراعى، ناهيك عن أن كل قبائل سيناء تقف وراء مؤسسات الدولة فى مواجهة مجموعات الإرهابيين الوافدين من الخارج.. وبما يجعل كلمات اليون مجرد كلمات فارغة وكاذبة فى الآن نفسه.

وإذا نظرنا الى شهادة توم ماليونسكي، مساعد وزير الخارجية السابق فلن نجد شيئا مختلفا عن عملية محكمة للابتزاز المعنوى لمصر، بادئا بأن مصر لم تعد دولة مهمة وإنها تمتص المساعدات ولا تسهم فى أمن ولا رخاء الإقليم بأى شيء إيجابى، ويصل الكذب والتدليس السياسى مداه بالقول «صحيح أنَّ مصر قد حافظت على معاهدة السلام مع إسرائيل، لكنَّ هذا أمر لم تفعله تنازلاً لأجلنا، وإنما فعلته لمصلحتها الخاصة».. وأن «المكان الوحيد الذى مارست مصر فيه نفوذًا مستقلًا هو ليبيا، حيث لم تزد الأمور بتدخلها إلا سوءًا».. وإذا كان من الطبيعى أن يحافظ أى بلد فى العالم على مصالحه، فهو لدى ماليونسكى مدعاة للتأويل، فإسرائيل أيضا حافظت على السلام مع مصر، بل الأكثر من ذلك قبلت أن تتنازل عما ورد فى بعض ملاحق المعاهدة، الذى كان يمنع تحركات الجيش المصرى فيما يعرف بالمنطقة «سى»، وإذا بالجيش المصرى يسيطر عليها طولا وعرضا، ولم تعد هناك لا مناطق سى ولا بى، وإنما سيناء واحدة تحت السيطرة المصرية الكاملة، فهل هذا تنازل إسرائيلى وبعلم أمريكى أم مجرد سوء تفاهم؟.

والأمر المخجل أن يصل تحليله للوضع فى ليبيا باعتباره أكثر سوءا نظرا لما تقوم به مصر.. وفجأة اكتشف هذا المسئول السابق أن مصر تؤثر فى محيطها الإقليمى، ورغم أننا نفعل ذلك بعد أن قام الناتو بقيادة أمريكية بوضع ليبيا على شفا الانهيار نتيجة التدخل العسكرى، غير المشروع، ونعمل على إصلاح ما أفسده الأمريكيون وحلفاؤهم استنادا إلى مسئوليتنا القومية والوطنية والعروبية والإنسانية تجاه أهلنا فى ليبيا، فإننا لسنا بحاجة الى شهادة صلاحية من ماليونسكى أو غيره، وسنظل نتابع دورنا لحماية ليبيا من الإرهاب ومن الفشل كدولة وسنقدم لها كل المساعدات الممكنة لإتمام مصالحة شاملة وراسخة، ولتذهب شهادات المزورين للتاريخ إلى مزبلته اللا نهائية.

دعوة لكبت حرية الإعلام المصرى

ويصل التدليس السياسى إلى أقصاه حين يقول ماليونسكي، «إن جزءا من حملة أكبر تقودها الدولة المصرية والإعلام الموالى للحكومة ضد الولايات المتحدة، بل إنَّ الرئيس السيسى نفسه كثيرًا ما تكلم عما يراه خطر «حروب الجيل الرابع» ــ وهى الحروب التى عرفها مسؤولون آخرون فى الجيش المصري، علانية، بأنها جهد تبذله الولايات المتحدة ودول غربية أخرى لإضعاف مصر من خلال الترويج لقيم الديمقراطية وتمويل منظمات المجتمع المدني»، والعبارة نفسها تفضح نفسها، فلم يحدثقط أن قال السيسى أو غيره من المسئولين العسكريين مثل هذا الأمر الكاذب.. أما حروب الجيل الرابع فهى ليست سوى نتاج لمفاهيم أمريكية بالأساس، وباتت شائعة فى العلم العسكرية الحديثة، وفيها جزء من الحقيقة حين تعنى أن حروب الوقت الراهن تعتمد على عمليات لتفكيك المجتمعات من داخلها عبر العمليات النفسية الموجهة، التى تستخدم تقنيات الاتصال الحديثة، لاسيما شبكة الإنترنت، وهو ما يحدث فى كل الحروب والأزمات الراهنة، فكيف ينكر علينا هذا المسئول السابق استخدام مفاهيم نظرية لشرح ما يجرى فى بلادنا، ويصوره على أنه حملة ضد بلاده. والعيب الخطير أنه يرى فى سلوك الإعلام المصرى الُمدافع عن بلده أمرا مستهجنا، وفى جزء آخر من شهادته يدعو الحكومة الأمريكية أن تطلب من نظيرتها المصرية أن توقف الانتقادات، التى تنُشر عن السياسة الأمريكية فى الإعلام المصرى.. فبعد أن يدعى أن هناك كبتا للحريات يجب أن تتوقف عنه الحكومة المصرية، إذا به يدعو حكومته الأمريكية للضغط على الحكومة المصرية لكى تقيد الإعلام المصرى، ويا له من تناقض وازدواجية معيبة.

وهناك الكثير فى هذه الشهادات البائسة يمكن فضحه وإبراز ما فيه من تناقضات وتعمد للإساءة والانحياز المفضوح، ولكن الأمر ليس فى مواجهة بعض تلك الآراء غير المنصفة بصورة موسمية رغم أهميته، بل فى تسويق منهجى للرؤية المصرية لما يجرى فى بلادنا وما حولها، وهو أمر تحدثنا عنه كثيرا من قبل، وعلى صفحات «المصور» الموقرة وطالبنا بأن يكون هناك استراتيجية للحوار الدائم، والمستمر مع المجتمعات الأخرى، لاسيما فى الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوربية النافذة من خلال تفاعلات دائمة بين مراكز البحوث المصرية ونظيرتها فى الخارج، وحوارات دائمة بين أعضاء البرلمان المصرى ونظرائهم فى البرلمانات الخارجية، وتطوير شامل وحديث لدور الهيئة العامة للاستعلامات بعد توفير الأموال والخطط والمعلومات، التى تصل بها حية، وبكل اللغات إلى الغير فى الخارج، ووسائل إعلامية باللغات الحية تصل إلى أهدافها بدون تردد.. ودون ذلك فسنظل مستهدفين من جهات تستغل الفراغ المعلوماتى، الذى تمكن منا ولا نبذل الكثير لتجاوزه.