بقلم – نجوان عبداللطيف
أكثر ما جذب انتباهى فى زيارة البابا فرنسيس الأول للقاهرة رد فعل البسطاء من المصريين مسلميهم ربما قبل مسيحييهم الذين شعروا بامتنان وحب للبابا يفوق كل التوقعات، البعض يرى أن ذلك بسبب إصرار البابا على القيام بالزيارة فى موعدها دون إلغاء أو تأجيل عقب حادثتى الانفجار فى كنيستى طنطا والإسكندرية، ولكننى سألت أحد عمال الجراج وقد أدهشنى متابعته بشغف على شاشة التلفاز لجولة البابا فرنسيس بالسيارة المكشوفة داخل استاد الدفاع الجوى، قال «رفض يركب عربية مصفحة وبيقولوا أنه بيركب القطار فى بلده ومابيحبش الفخفخة ودايما بيدافع عن الفقراء»
الفقراء يحبون من يدافع عنهم، يستقبلون رسائله، تمتد بينهم حبال الود والمشاعر دون وسيط أو حجاب.
عندما قال البابا «إن صناعة السلام تستوجب التعاون لإنهاء حالات الفقر والاستغلال، حيث تسهل نمو الوصولية وتدفقات المال والسلاح نحو ما يشجع على العنف.»
ببساطة وعمق لخص علاقة الفقر بالتطرف والعنف والإرهاب، خلال كلمته فى المؤتمر العالمى للسلام بمشيخة الأزهر، الفقر والاستغلال هما مفتاح الإرهاب.
البابا فرنسيس الأول هو أول بابا من خارج أوربا منذ ١٢٠٠عام هو ابن أمريكا الجنوبية أو أمريكا الفقيرة من الأرجنتين، وكان اختياره لاسم فرنسيس ذا دلالة، إذ يعرف القديس فرنسيس الأسيزى الإسبانى الذى عاش فى القرن الـ ١٣، بأنه كان من أتباع التيار الإصلاحى فى الكنيسة، وقد ترك حياة الترف واختار حياة الزهد تاركًا عائلته وأصدقاءه، وبدأ بالدعوة إلى مساعدة الفقراء، وهو أحد مؤسسى الرهبنة اليسوعية التى ينتسب إليها البابا. وأشار البابا إلى أنه اختار اسم القديس فرنسيس بوصفه رجلاً يدافع عن السلام فى عالم تتقاذفه الحروب، وعن دفاعه ومحبته للطبيعة فى عالم يتجه نحو التلوث.
إنه يريد «كنيسة فقيرة، تدافع عن الفقراء» هكذا حدد البابا مهمته وأهدافه.
عُرف البابا فرنسيس منذ أن كان رئيسا للأساقفة بالأرجنتين بالبساطة والبعد عن التكلف. وخلال الأيام الأولى من جلوسه على كرسى الباباوية أجرى تعديلات عديدة حيث احتفظ بالصليب الحديدى الذى كان يرتديه كرئيس أساقفة ولم يرتد الصليب الذهبى الذى ارتداه الباباوات السابقين، ورفض الإقامة فى القصر، وفضل الإقامة فى بيت القديسة مرثا، وهو بيت صغير لاستقبال ضيوف الفاتيكان، ليكون بذلك أول بابا لا يتخذ من القصر مقرًا دائمًا لإقامته. ويفضل البابا استخدام القطار فى تنقلاته، ومؤخرا قرر بيع أى هدايا تصل للباباوية لصالح الفقراء حتى ولو كانت بسيطة، منها عربة فيات جديدة رباعية الدفع، وعددا من الدراجات وماكينة قهوة (اكسبريسو) وعددا من ساعات اليد ضمن أشياء أخرى تلقاها كهدايا.
وفى الماضى كانت معظم الهدايا التى تقدم لمن يجلس على رأس الكنيسة الكاثوليكية تمنح فى هدوء إلى البعثات والمؤسسات الكنسية، أو تترك فى الفاتيكان دون أن يستفيد منها أحد.
وألغى البابا المكافآت التقليدية التى تدفع للموظفين فى الفاتيكان بعد انتخاب البابا الجديد والتى تقدر بعدة ملايين من اليورو، واستعاض عنها بالتبرع للجمعيات الخيرية.
وهاجم البابا النظام الرأسمالى المتوحش أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة وقال:«التعطش الأنانى واللانهائى للسلطة والرفاهية المادية يقود إلى إساءة استغلال الموارد الطبيعية المتاحة، وإقصاء الضعفاء والبؤساء».
وقال فى نداء أطلقه عبر رسالة فيديو: «نحن نعيش فى مدن تبنى الأبراج ومراكز التسوق، وتحقق صفقات عقارية كبيرة، لكن نترك فى الوقت ذاته جزءا على الهامش، فى الضواحي»
وأشار البابا فرنسيس إلى أنه «نتيجة لهذا الوضع، فإن طيفا واسعا من السكان يرى نفسه فى حالة إقصاء وتهميش، حيث لا يجد عملا، ودون سبيل للخروج من هذا الوضع»
وطالب البابا «عدم التخلى عن هؤلاء، والصلاة معا لأجل جميع من هم فى محنة، وعلى وجه الخصوص، الفقراء واللاجئين والمهمشين، لكى يجدوا قبولا وتضامنا فى مجتمعاتنا»
ومازالت صورة البابا وهو يقبل أقدام عشرة من اللاجئين ويغسل أقدامهم وهو طقس كنسى يعنى قبول الآخر.. ماثلة فى الأذهان، وبين هؤلاء أبناء مدينة حلب سورية فى إطار مساعدتهم بعد الحرب الضروس التى عاشوها والتشريد الذى يعانونه الآن، كما لم يتردد البابا فى انتقاد الرئيس الأمريكى الجديد ترامب بسبب موقفه من المهاجرين والمسلمين « لا أصدر أحكاما على الناس ورجال السياسة. أريد فقط أن أعرف المعاناة التى يسببها سلوكهم للفقراء والمهمشين».
وأضاف البابا أن أكثر ما يقلقه فى هذه اللحظة هو اللاجئون والمهاجرون، وأكد أنه «يجب أن نهدم الجدران التى تسبب الفرقة».
البابا يضع العدالة الاجتماعية كهدف دينى لا تستقر المسيحية بدونه، وذلك منذ كان أسقفاً لبيونيس آيرس حيث وقف أمام الحكومة من أجل القرارات التى تهدر العدالة الاجتماعية حيث قال الفقر المدقع والهياكل الاقتصادية الظالمة التى تسبب عدم المساواة كبيرة، وتشكل انتهاكات لحقوق الإنسان «والفقراء يتعرضون للاضطهاد بسبب مطالبتهم بالعمل، والأغنياء يتم التصفيق لهم عندما يفرون من وجه العدالة»، وخلال احتجاجات ٢٠٠١ انتقد» برجوليو»- الاسم الحقيقى للبابا - طريقة تعامل الشرطة ووزارة الداخلية مع المتظاهرين. وفى عام ٢٠٠٤ وجه انتقادات حادة للرئيس الأرجنتينى نيستور كيرشينور أثناء قداس الاحتفال بالعيد الوطنى مما أدى لإلغائه فى السنوات اللاحقة، وفى عام ٢٠٠٨ انتقد البابا السياسة الحكومية تجاه المزارعين ودعا لدعم الريف الأرجنتيني.
«تصريحات البابا ودعمه للبسطاء قبل وبعد كرسى الباباوية ودعوته لألف فقير لتناول الغذاء معه فى الفاتيكان، كانت وراء وصف مدونة فى مجلة «إيكونوميست» للبابا بأنه يبدو وكأنه «لينيني» لانتقاده الرأسمالية ودعوته إلى إصلاحات اقتصادية جذرية حيث قال البابا تعليقا على ذلك «أستطيع القول فقط بأن الشيوعيين سرقوا رايتنا.. المسيحية هى راية الفقراء.
والاهتمام بالفقر يأتى فى صلب الإنجيل «مستشهدا بفقرات من الإنجيل عن ضرورة مساعدة الفقراء والمرضى والمحتاجين.
وتطرق إلى إنجيل مرقس الذى دعا إلى مساعدة «العطشى والجائعين والسجناء والمرضى والعريانين».
وقال البابا فى موضع آخر « كارل ماركس لم يخترع شيئا والشيوعيون سرقوا علمنا، لأن علم الفقر مسيحي. وقال «إن الفقر فى قلب الإنجيل».
ربما لا يعرف فقراء مصر كثيرا عن البابا ومواقفه الداعمة لهم ولكل فقراء العالم ولكنهم تواصلوا معه بقلوبهم واستقبلوا بشاشة وجهه المعبرة عن السماحة وقبول الآخر بمحبة حقيقية، واستمعوا إليه وصدقوه حين قال فى صلاته أمام الآلاف فى استاد الدفاع الجوى «إن التطرف الوحيد الذى يجوز للمؤمنين هو تطرف المحبة»، و»إن لم نكسر الحجاب الذى يغطى أعيننا، ونكسر تحجر قلوبنا، لن نتمكن أبدا من رؤية وجه الله”.