الإثنين 20 مايو 2024

المصريون عبروا أيضا بالغناء أنا الشعب لا أعرف المستحيلا.. ولا أرتضى بالخلود بديلا

3-5-2017 | 13:57

بقلم –  أشرف غريب

الأغنية الوطنية فى بلادنا موصومة دائما بالتملق والغناء للحاكم، هذه حقيقة تؤكدها الرسومات الموجودة على جدران المعابد الفرعونية، ويدعمها ذلك الإرث الكبير من شريط الصوت من أول ما تغنى به الشيخ زكريا أحمد فى مدح الملك فؤاد وحتى «اخترناه اخترناه» مرورا بـ «يا جمال يا حبيب الملايين» و«عاش اللى قال» على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال، ومع ذلك لم يغب الشعب عن المسمع الغنائى – إذا جاز التعبير - خاصة فى أوقات الثورات أو الاضطراب السياسى، أما فى أوقات الكمون والاستكانة فاسترضاء الحاكم هو المفردة السائدة والفكرة المفضلة لدى صناع الأغنية فى بلادنا، وإذا أردت أن تسترجع فقط جانبا من هذا الموروث الغنائى فسوف تشعر بالخزى حيال تاريخنا الغنائى قديمه وحديثه على السواء.

أما الشعب فلا يتم استحضاره غنائيا إلا فى حالتين تقريبا، إما استنهاض الهمم والتحريض على التغيير، وإما الفخر والتغنى بالماضى العظيم، أو الحالتين معا على نحو بدا أكثر نضجا فى الطرح والتناول لأنه يستلهم المجد القديم من أجل بعث الروح فى الجسد الخامل والوصول إلى الأفضل.

وربما لم تعرف مصر الأغنية التحريضية فى العصر الحديث إلا على يد فنان الشعب سيد درويش الذى تزامنت «فورته الموسيقية» مع ثورة شعب كان يسعى للاستقلال وتحقيق الذات بداية من سنة ١٩١٩ والأعوام التالية، فكان نشيد «بلادى بلادى» من تأليف يونس القاضى الذى أصبح أيقونة ثورة ١٩١٩، ثم أغنية «قوم يا مصرى» من تأليف بديع خيرى التى تعتبر واحدة من أهم الأغنيات التحريضية وأقواها فى تاريخ الغناء العربى، حيث تخاطب الأغنية كل فرد من أبناء الشعب مستنهضة همته وكبرياءه قائلة:

«قوم يا مصرى، مصر دائما بتناديك.. خد بنصرى، نصرى دين واجب عليك.. يوم ما سعدى راح هدر قدام عينيك.. عد لى مجدى اللى ضيعته بإيديك.. شوف جدودك فى قبورهم ليل نهار.. من جمودك كل عظمة بتستجار.. فين آثارك ياللى دنست الآثار.. دول فاتولك مجد، وانت فوت عار»، ثم تمضى الأغنية فى مقطع آخر كأنه مكتوب اليوم «ليه يا مصرى كل أحوالك عجب.. تشكى فقرك وانت ماشى فوق دهب.. مصر جنة طول ما فيها انت يا نيل.. عمر ابنك لم يعيش أبدا ذليل.. يوم مبارك تم لك فيه السعود.. حب جارك قبل ما تحب الوجود.. من نصارى ومسلمين لازم نسود.. دى العبارة نسل واحد م الجدود».

وحينما يتحدث فنان الشعب سيد درويش باسم الشعب متفاخرا متباهيا ومعتزا بتاريخه، فهو يغنى من نظم محمود بيرم التونسى «أنا المصرى كريم العنصرين.. بنيت المجد بين الإهرمين.. جدودى أنشأوا العلم العجيب.. ومجرى النيل فى الوادى الخصيب.. لهم فى الدنيا آلاف السنين.. ويفنى الكون وهما موجودين.. وأقوللك عاللى خلانى أفوت أهلى وأوطانى.. حبيب وهبتله روحى.. لغيره لا أميل تانى» أو يشدو قائلا: «أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا.. وقت الشدايد تعالى شوفنا.. ساعة مانلمح جيش الأعادى نهجم ولا أى شىء يحوشنا.. مستقبل الأمة بين إيديكم فى الوقت ده نعتمد عليكم.. ردوا آدى الشعب بيناديكم بيقول لكم احفظوا شرفنا».

وبرحيل سيد درويش ودخول مرحلة الملكية الدستورية فى العام نفسه تدخل مصر مرحلة من الكمون الغنائى تعلو فيها نبرة الغناء للحاكم إلا من النذر القليل كما فى «نشيد الحرية» الذى كتبه كامل الشناوى ولحنه محمد عبد الوهاب ويحمل نبرة تحريضية قوية لم تتحملها حكومة ما قبل ثورة يوليو، فقامت بمنعه قبل أن تفرج عنه حكومة الثورة حيث يقول مطلع النشيد:

«كنت فى صمتك مرغم.. كمن فى صمتك مكره.. فتكلم وتألم.. وتعلم كيف تكره.. عرضك الغالى على الظالم هان.. ومشى العار إليه وإليك.. أرضك الحرة غطاها الهوان.. وطغى الظلم عليها وعليك.. قدم الأجل قربانا لعرضك.. اجعل العمر سياجا حول أرضك.. غضبة للعرض، للأرض، لنا.. غضبة تبعث فينا مجددا».

ثم تأتى ثورة الثالث والعشرين من يوليو، ومعها يزداد التفاف الجماهير حول قائدها الفعلى جمال عبد الناصر، ومع تنامى هذه العلاقة الخاصة بين القائد والجماهير والاستناد إليها باعتبارها ظهيره الأول زاد استحضار مفردة «الشعب» فى الأغنية الوطنية وباتت الجماهير بطلا ظاهرا فى تلك الأغنيات حتى لو كانت تلك الأغنيات الجماهيرية تلعب هى الأخرى على إظهار ولائها ومحبتها للحاكم على غرار أغنية عبد الحليم حافظ «إحنا الشعب» التى غناها سنة ١٩٥٦ بعد انتخاب عبد الناصر رئيسا للجمهورية من تأليف صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، وتقول كلماتها:

«إحنا الشعب.. اخترناك من قلب الشعب.. يا فاتح باب الحرية، يا ريس يا كبير القلب.. يــا حـــلاوة الـشـعــب وهــو بــيــهــتــف بــاســــم حـبـيـبـه.. مــبــروك عـالـشـــعـب خــلاص السـعـد حيبــقـى نــصـيـبــه.. واحــنــــا اخـــتـرنــــاك وحنــــمــشـــــــى وراك

يا فــاتـح بـاب الحـريـــة يـا ريــس يــا كبير القلب إحــــــــنـــــــــــــــــــا الــــــشــــــــــــــــــــــــعــــــــــب

إحــنــــا حــــيــــاتــك وابتســـامتـــك وانــــت حــيــاتـنــــا إحــنــــا بـنـفـــــرح وأنـــــت بـــتــفــــرح مــن فــرحـتـنــــا كــــل مـــــا نــــكـــبـر قـلـبـــــك يـكـــبـــــر ف مــحبتـنـــا

وإحــنــــا اخـــتـرنــــاك وحنـــــمــشـــــــى وراك يا فــاتـح بـاب الحـريـــة يـا ريــس يــا كبير القلب

إحنا الشعـب يــاللـــــى بـتـســـهـــــر لاجـــــل مـا تـظـهـــر شمــس هنـانـا إحــنــــا جــنــودك إيــدنــــا ف إيــــدك الـوحــدة أمــــانـــة بـــكــــرة وطـــنــــا ح يــصـــبـــــح جنـــة وانــت مـعــانــا إحــــنــــا اخـــتـرنــــاك وحنـــمــشـــــــى وراك يا فــاتـح بـاب الحـريـــة يـا ريــس يــا كبير القلب إحنا الشعب».

ويغنى أيضا عبد الحليم أو جبرتى الثورة «حكاية شعب» سنة ١٩٦٠من كلمات أحمد شفيق كامل وألحان كمال الطويل من وحى ملحمة تحدى القوى الاستعمارية وبناء السد العالى، وكذلك أغنية «مطالب شعب» فى العيد العاشر لثورة يوليو من تأليف وتلحين الثنائى نفسه، وتغنى سعاد محمد فى الفترة ذاتها من ألحان رياض السنباطى كلمات الشاعر التونسى أبى القاسم الشابى التى تقول: «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.. ولا بد لليل أن ينجلى، ولا بد للقيد أن ينكسر»

وفى العيد الثانى عشر لثورة يوليو، وفى حفل نادى الضباط تشدو كوكب الشرق أم كلثوم بقصيدة «على باب مصر» رائعة الشاعر كامل الشناوى والموسيقار محمد عبد الوهاب التى تقول نهاية كلماتها:

«أنا الشعب.. أنا الشعب 

لا أعرف المستحيلا.. ولا أرتضى بالخلود بديلا

بلادى مفتوحة كالسماء 

تضم الصديق.. وتمحو الدخيلا 

أنا الشعب.. شعب العلا والنضال

أحب السلام.. أخوض القتال 

و مِنّى الحقيقة.. مِنّى الخيال

وعندى الجمال.. وعندى «جمال»

وربما استلهاما من هذه القصيدة أو مجرد توارد خواطر يقدم الشيخ إمام عيسى زعيم الأغنية السياسية فى هذه الفترة أغنيته الرائعة «أنا الشعب» والتى يقول مطلعها «أنا الشعب ماشى وعارف طريقى.. كفاحى سلاحى وعزمى صديقى.. أخوض الليالى وبعيون آمالى.. أحدد مكان الصباح الحقيقى.. أنا الشعب ماشى وعارف طريقى»

وبعد هزيمة يونيو ١٩٦٧ أصبح الغناء للوطن وآلامه هو السائد حتى تحقق النصر فى أكتوبر ١٩٧٣، فعادت من جديد نبرة تملق الحاكم قائد الحرب والسلام، واختفت أو كادت مفردة الشعب فى الغناء الوطنى اللهم إلا على طريقة أغنية «قول يا سادات ياللى كلامك حكم.. قول يا سادات والشعب حيقوللك نعم»، أما فى فترة الثمانينيات وما بعدها فقد أدت حالة الكمون وغياب المشروع القومى إلى خفوت الحس الوطنى الحقيقى، فأصبحت الأغنية الوطنية هى أغنية المناسبات التى تتغنى بصاحب الطلعة الجوية والنسر المصرى الذى شق السما والرئيس الذى اخترناه وعلى حياتنا استأمناه، وفى المقابل اختفت الأغنية التى تعبر عن الشعب المصرى أو تستنهض همته، حتى وضحت مؤشرات التغيير أو المطالبة به قبيل يناير٢٠١١، فظهرت أول أغنية تحريضية حقيقية ربما منذ عقود وهى أغنية «إزاى» للمطرب محمد منير التى أصبحت أيقونة ما حدث فى الخامس والعشرين من يناير، والتى يقول مطلعها:

«إزاى ترضيلى حبيبتى.. أتمعشق اسمك وانتى.. عمالة تزيدى فى حيرتى.. ومانتيش حاسة بطيبتى ازاى.. أنا لو عاشقك متخير.. كان قلبى زمانه اتغير.. وحياتك لافضل أغير فيكى لحد ما ترضى عليه».

ولأن هذه الأغنية أقرب فى المفردات والتوجه إلى الأغنية السياسية التى كان يقدمها الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، فقد أدى نجاحها إلى انتشار ما يمكن تسميته بأغانى «أندر جراوند» أو الأغنية غير التقليدية، وهذا ما نهضت به الفرق الجماعية تحديدا مثل «كايروكى» و»مسار إجبارى» و»سيتى باند» و»اسكندريلا» وغيرها، وجميع أغنياتها تعبر عن الناس وتتوجه إليهم، بل وتنزل إليهم فى تجمعاتهم، وهى أقرب من حيث الشكل إلى النموذج الذى كان يقدمه محمد نوح وفرقته فى فترة السبعينيات ولكن بمعطيات الفترة الراهنة.

ومع ذلك تظل لأغنيات مثل «أنا الشعب» أو «إحنا الشعب» التى ظهرت قبل نحو نصف قرن مكانة خاصة فى الوجدان الجمعى المصرى، وحضور دائم فى الأذهان وعلى الألسنة فى كل مناسبة وطنية يكون الشعب المصرى فيها هو البطل الحقيقى.