الثلاثاء 21 مايو 2024

«فوتوغرافيا».. قصة جديدة لـ أسماء حسين من «فسحة بويكا»

فن24-1-2021 | 10:17

تنشر بوابة "الهلال اليوم"، قصة "فوتوغرافيا"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.



فوتوغرافيا


 

حلّ الصباح على سريره القديم المثبت بأحد أركان الغرفة المستطيلة المعبأة بروائح مختلفة خانقة، كانت الغرفة تعجّ بصرخات المصابين وصيحات ألمهم ولوحة شبه ممزقة متناثرة بالمكان من مناظر الجروح والأدوات الحادة المعقمة والملابس الممزقة والأسِرَّة المبعثرة في كل بقعة، بينما هو يتقلب في جسده المريض طوال الليل ولا يهدأ، لم ينتبِه إليه أحد من الأطباء حيث كانوا في غرف الطوارئ لديهم ما يكفي ليشغلهم من الجراح والصيحات والمرضى، كل ما يصله بالخارج نافذة متسخة ذات اطار أكله الصدأ، إلى جانب سريره استقر سرير صغير خالِ، لم يحظَ بعد -بالرغم من كثرة المصابين- بالمريض الذي يشغله.

نظر إلى السرير الفارغ إلى جانبه مرارًا بعد إخلاؤه من آخر مصاب سعيد الحظ لم تستغرق راحته وقتًا لتحل.

تساءل عمّن سيشغله الآن؟ هل سيكون مريضًا؟ أم مصابًا مثله ومثل الأغلبية هنا؟ رجل أم صبي؟ هل هو مناضل أم صاحب عائلة يتركها خلفه؟ جاءت عليه ليال هنا تمنى فيها لو أنه يتلقى كل هذا الموت دفعة واحدة، وبالنيابة عن الجميع، تبلد وعيه من كل هذا الألم المحيط، تمنى لو كان له جسدًا أضخم، جسد يتسع لَضَمّ أسِرّة المستشفى في كتلة واحدة يشملها بجسده وحده، ربما يمتص وحده دماء وآلام كل الجرحى والمرضى القادمين، فقط هو يتوجع، يعاني، يتقلّب، يئن، ويرحل. بينما الآخرين ناجين من تلك التجربة، يتمتعون بحياة أعدل، خارج المستشفى وغرفها الأشبه بالمقابر، وتقود بالعادة إليها، أحسّ بالوجع يتكاثر في تلك الغرفة بدلًا من أن يخمد بداخلها.

حاول النهوض بصعوبة ليأخذ وضعية الجلوس، ثم أسند ظهره على الوسادة بعد أن تأكد من سلامة الضمادات بجسده، صار يمسح العرق الساخن عن وجهه بأكمام كنزته الوحيدة التي تقيه بعض البرد. كان مصرًا على الاحتفاظ بتلك الكنزة أكثر من أي شيء بقى له أو معه في هذه المستشفى، كان يشمّ رائحتها تفوح دائمًا من بين أنسجتها وخيوط الأزرار التي ثبتتها لأجله بعناية.

الفتاة الحلوة المتحفظة التي التقاها داخل استديو التصوير في المدينة قبل الاجتياح، جلس ينتظر دوره إلى جانبها بينما كانت تقرأ كتابًا من الشعر وتردد بعض المقاطع التي تتوقف عندها بخفوت لا يلحظه سوى من ينتبه سلفًا، شعر حينها برغبة في فتح حديث معها ولو للحظات عابرة أثناء انتظارهم، كانت قليلة الكلام ومتحفظة، وكان التحدث معها صعبًا، قال لها أنه سيتصوّر للذكرى صورتين حديثتين يتركهما لجدته، بينما كانت ستتصوّر صورة واحدة لأوراق الهوية خاصتها، من الكلمات القليلة التي كانت تخرج منها أخبرته أنها جاءت بعد رفض مطول لكي تجمع أوراق عمل الهوية، فهي لا تريد هوية مكتوب في أوراقها مكان الميلاد "غزة" على أية حال، كانت تريد أن يوثق ميلادها ووجودها إلى مدينة "يافا". المدينة التي لم ترَها أو تزرها أو تأكل من طعامها أبدًا، كل ما تعرفه عنها حدثتها به أمها إرثًا عن جدتها، فقط احتفظت بذاكرة جدتها لأمها كملجأ تفر إليه حين يفيض بها الحنين.

كان ثمة حزن مشترك بينهما، أدركه من حديثها الموجز عن نفسها، ومرض واحد عالق بقلبين: الوطن.

آخر مرة التقاها مصادفة، كانت قبل أسبوع واحد من تفاقم مرض قلبه وإصابته برصاصة من رصاص الاحتلال، كان سعيدًا برؤيتها وحالمًا كطفل أمام شعوره بها، أعطاها ذلك اليوم صورة صغيرة باقية لديه من صور الاستوديو الذي تقابلا فيه لتذكره، همست له بتحفظ حنون بصوت يكاد لا يسمع خفوته: أن أجمل ما فيه عينيهِ البنيتين، ضحكَ لخجلها وأعلن في جرأة مفاجئة بصوت عال أجش أنه بانتظار الوقت الذي سيجمعهما معًا مرة أخرى ولكن في غرفة واحدة وستحمل صورة لهما معًا، إلى جانب بعضهما، كانت تتعثر في خطواتها إلى جانبه وقد تضرّج وجهها بالخجل، وتمتمت بكلمات غير مفهومة تنم عن ارتباكها لكن ذلك لم يخف فرحًا خجولًا بدا على محياها.

ابتسم وهو يتذكرها ليشعر بانتشاء بسيط وسط هذا الألم، واستدار إلى جهة السرير الفارغ، فعاوده ذلك الخواء والحزن، إن منظره الفارغ تحديدًا يُشعره بالرهبة والقشعريرة، تذكّر صورة وجهه التي تحملها معها وفكر، "ماذا لو رأتني الآن، هل ستعرفني؟"

ليلة الاجتياح تشوّه وجهه بالكامل من الشظايا المتطايرة عشوائيًا مثل انهمار المطر بلا توقف.

انفتح باب الغرفة المحتجز فيها على مصراعيه لعجلات عربة نقل الجرحى وكأنه قرأ أفكاره فقرر أن ينفتح ويحضر له زائرًا يملأ فراغ السرير الذي يقض مصيره مضجعه، لمح أحدهم يحمل بين ذراعيه جسدًا ضئيلًا للغاية، ظنه لطفل، حتى بانت تفاصيله الصغيرة حين دخل إلى نهاية الغرفة، تهدّل الشعر الأسود مخصّلًا بخطوطٍ حمراء صبغها الدم على وجه مغطى بأكمله، "إنها أنثى!"، أيقن في دهشة، رُمي الجسد الضئيل على السرير الفارغ، فيما ركض حامله خارج الغرفة لينقل مصابًا آخر، ثم تحركت اليدين بخمول لتزيح الخصال الكثيفة عن وجهها وتحاول اتخاذ وضع مقبول لجسدها في السرير، وانفتحت العينين الواسعتين تجولان في أنحاء الغرفة حتى استقرتا عليه ، شَهق: "أنتِ؟!"

نظرت الفتاة الصغيرة إليه وسألته: "ماذا! من؟", قال مندهشًا: "إنه أنا! صاحب الصورة من الاستوديو"، عدلت من جلستها قليلًا وأمعنت النظر في وجهه لتتعرف إليه من جديد ثم بادرت مبتسمة: "لولا عينيكَ.. لما عرفتكَ".

أثناء ذلك كانت تخرج ببطء صورة وجهه من أحد جيوبها وتخبئها تحت الوسادة دون ملاحظته، ثم قالت بصوت مرح خجول تُأرجحه بقايا حشرجات ألم متقطعة جراء إصابتها: "ها نحن في غرفة واحدة أخيرًا معًا!"