الأربعاء 27 نوفمبر 2024

فن

«أمنيات عالقة».. قصة جديدة لـ أسماء حسين من «فسحة بويكا»

  • 28-1-2021 | 11:19

طباعة

تنشر بوابة "الهلال اليوم"، قصة "أمنيات عالقة"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.


أمنيات عالقة


عمري يتقدم وورائه جدران مرصوفة حول جسدي، والمكان ضفة يلوح ناسها بحركتهم التي تعوزني، أو يمسح على راسي العابرون، رأسي حديدي، صلب، ومع ذلك فإني لستُ صعب المراس.


إذ يمكنكم طرق هذا الرأس، وتطويعه، وتثبيت صاحبه حيثما تريدون. وكذلك طمس أحلامه ببعض المتعلقات أو الأقمشة.


وهكذا قادتني إرادتكم إلى هذا المكان الصغير، إلى تلك الجدران العارية حولي، في هذه الغرفة الحقيرة، التي لا تشتمل إلا على سريرٍ واحد، وخزانة ملابس صغيرة جدًا ومتهالكة، يجاورها حمام لا أرى إلا الباب المؤدي إليه.


في بدايات وجودي هنا، كنت كثيرًا ما أندب الحظ الذي قادني إلى هذا المكان، وأفكر في أقراني.. أقراني الذين يسكنون في قصورٍ فسيحة، ويرتكزون على الجدران العالية. وقد حُمّلوا الساعات الباهظة، أو المرايا المصقولة، أقراني الذين يسكنون مكاتب رجال الشرطة، ويحملون صورة الحاكم أو لوحةً تقول: (الشرطة في خدمة الشعب)، أقراني الذين يسكنون بيوتًا شعبية متواضعة، ويحملون ثياب النسوة الجميلات، أو الصور العائلية البسيطة، أوووه هل قلتُ صورًا عائلية.. الصور العائلية، الصور العائلية.. هوسي المتجدد، إنها الشيء الذي لطالما حلمتُ أن أحمله منذ نعومة حديدي. الصور العائلية تلك التي تؤطر بإطار مُذّهب يسجن اللحظة، يُخلّدها، يحفظ ابتسامات أصحاب الصورة من الزمن والفناء، الابتسامات التي قد ينساها أصحابها ويفقدونها حتى تأت عليهم أيام يشكّون في أنَّ شفاههم قد ابتسمت على ذلك النحو يومًا ما، بينما الصورة لا تنسى.. لا تنسى.


يا لهذه الصور العائلية، كم كنتُ أتمناها


مضى على وجودي هنا ثلاثة أشهر، قضيتُ الأيام الأولى منها في الحسرات المعترضة ولعن إرادتكم التي قادتني إلى هنا. وبعد ذلك بدأ يتوافد على هذا المكان أُناسًا لا يؤانسون وحشتي مطلقًا، لكنهم يستأثرون بانتباهي.. وجوه تتجدد في كل يومين، أو كل أسبوع على الأكثر. رجلٌ وامرأة، رجلٌ وامرأة، رجلٌ وامرأة، لم يتوافد على هذا المكان غير تلك الثنائية المتواترة طوال الوقت. لم أرَ طوال إقامتي هنا أي أصدقاء، ولا عائلات صغيرة أو كبيرة، ولم أسمع أصوات ضحكات أطفال أو صبية يمرحون. لا أحد إلا رجلٌ وامرأة بوجوه مُختلفة في كل مرة، وأنا ثالثهما.


رجلٌ يحمل بطنه البارز، وامرأة تحمل حقيبة صغيرة، يتبادلون همساتٍ مشبوهة، ثم تضحك المرأة بلا خجل، فيضحك الرجل وتهتز بطنه. كنتُ أرقب بطن الرجل وهي تهتز فأتذكر حلمي القديم الساذج. أتمنى لو أن بطن الرجل كانت من نصيب المرأة التي ترافقه، لرُبما تمخضت هذه البطن عن طفلٍ صغير فيما بعد. يلتقطون له صورًا بصحبتهم، فأحملها لهم، وأحقق حلمي القديم، الصور العائلية، ويالسحر الصور العائلية.


مضى على وجودي هنا ثلاثة أشهر، وتردد على هذه الغرفة رجال ونساء بوجوه عديدة وحكاياتٍ كثيرة، حتى كدتُ أن أنسى حلمي، كدتُ أن أنسى الصور العائلية.


ولم أتذكر هذا الحلم مجددًا إلا مرتين. مرةً حين زار هذا المكان رجلٌ نحيل بأسنان صفراء، حمَّلني ثوبه بالغ الإتساخ، وغطّى به وجهي المسكين، فلم أستطع مراقبة ما يجري حولي، ثمَّ استعاد ثوبه مني بعد فترة قصيرة، وارتداه وجلس على حافة السرير يُدخن بعصبيةٍ وشراهة، في حين كانت المرأة تخبئ وجهها بين كفيها، وتبكي. سمعت الرجل يلوم تفريطها الذي أدَّى بها إلى الحمل وبدا رافضًا تمامًا للأمر، كانت تبكي بغزارة، والرجل يدخن بصمت ويعود إلى لومها، قال كلامًا يتردد كثيرًا في الأفلام العربية التي عاصرتها سماعيًا في صغري من داخل علبتي الورقية مثل: لستُ مسؤولًا عن ذلك الجنين، لابد أن تتخلصي منه، لن أتسامح مع تفريطك، لن أنسبه لي، لن أستمر معك لو استمر ذلك الحمل. و .. و ...

ولم تزل المرأة تبكي، ولو أن الحديد يبكي لبكيت لحالها وحالي، فاستمرار هذا الحمل قد يهديني صورةً عائلية، صورة لعائلة صغيرة بوجوه تحمل الابتسامات الخالدة، وما كدت أستعيد أحلامي القديمة حتى صعقني صوت الرجل حين قال: ماذا يُتوقع أن أقول لزوجتي؟ كيف سأخبرها عنكِ وعن الجنين الذي تحملين؟


وأصابتني الحيرة حينها، فإن لم تكن تلك المرأة زوجته فمن تكون؟ ثم تساءلت أين أنا؟ في أي البيوت أسكن؟ هل أنا في أحد تلك الأماكن المخصصة لممارسة تلك العلاقات الشاذة؟ لا.. لقد تخليت عن كل أحلامي، لم أعد أريد أن أحمل أي شيء هنا. لا ملابسهم النتنة، ولا صورهم العائلية، ولا المرايا الصقيلة، أُفضل أن أكون عالقًا بأعقاب أحذيتكم التي تجوبون بها أفقر وأقذر الشوارع على أن أسكن مكانًا بلا روح كهذا.


مرّت علي أيامًا عصيبة، ومرَّ على هذا المكان رجالٌ ونساء بوجوه مختلفة. حمّلوني الثياب النتنة، والمناشف المبتلة، والعباءات السوداء.. والأسئلة الموجعة.


إلى أن أتت المرة الثانية التي استعدتُ فيها حلمي القديم، حين زار هذا المكان رجلٌ بمعية امرأة في منتصف العقد الرابع. حملوني ما يشاءون من ثيابهم، ولم أحفل بأي شيء، لا بأحاديثهم المقتضبة، ولا بلحظاتهم الخاصة، ولا بأشكال وجوههم وأمزجتهم الغريبة. لم أحفل إلا بصوت رنين هاتف المرأة المتكرر، فقد كانت تنظر إلى الهاتف في ذعرٍ واضح. وتقول بنفس الدرجة من الذعر: أبنائي، هل أرد، ماذا أقول؟


وأجابها الرجل بثقة بدت لي مثالية: لا تخشي شيئًا. أنتِ زوجتي على سنة الله ورسوله.


هي زوجته إذن، كيف تخشى زوجته من أبنائها؟، ومن يكونون أبنائها إن لم يكونوا أبناءه؟!، لا عليَّ، لمَ أهتم لكل هذا. لقد سعدتُ جدًا بأني أعيش الآن في مكانٍ لا تتسلل إليه العلاقات الشاذة عن المألوف وذلك يكفيني لأتنفس الصعداء مجددًا، هكذا استعدتُ حلمي القديم الدافيء، حلم حمل الصور العائلية. الصور العائلية الجميلة، تلك التي تحفظ الابتسامات المطمئنة من الفناء والزمن، يا لهذه الصور العائلية.


وما كدت أستغرق في حلمي، حتى غادرني ذلك الرجل الغريب وامرأته كسواهما إلى غير رجعة، ومرَّ على هذا المكان أزواج متعددون غيرهما بعد ذلك. ولم يحتفظ هذا المكان بأيٍ من تلك الوجوه، وكذلك أنا. كما لم أعد احتفظ بحلمي الأثير اللحوح في حمل الصور العائلية، لقد فقدتُ هذا الأمل للأبد، وصرت لا أعدو مسمارًا مسكينًا، دقته أياديهم في شقةٍ صغيرة كثيرًا ما صار يستأجرها أصحاب زيجات المسيار مؤخرًا. وليس لي الحق في استئجارهم بدوري لتحقيق أمنياتي الساذجة البالية.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة