السبت 18 مايو 2024

«مهن بذيئة».. قصة جديدة لـ أسماء حسين من «فسحة بويكا»

فن30-1-2021 | 10:35

تنشر بوابة "الهلال اليوم"، قصة "مهن بذيئة"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.


مهن بذيئة


 

الشوارع تخلو عادة من أثر للحياة في شتاء هذه المدينة، وفي صباحاتها تبدو مقفرة سوى من سيارات بعض سكانها المتأخرين عن أعمالهم، والحي الذي يقع ضمن دائرة عملي، فقير ومهمل، وعملي كموزع خدمات للمرافق، وقاطع خدمات أيضًا! كما يحلو لأصدقائي التندّر مني! أو ربما "عشماوي المنازل"، اللقب الذي يكاد يبدو لي أنهم يستخدمونه في غيابي!، عمل مخفف ليومين في الشهر، يومان متتاليان، يوم لقراءة العداد، وآخر لفصل الخدمة وهذا الأخير يضطرني لحمل مفتاح قفل غليظ والاستعداد للعديد من المشاكل. 


السائق بجواري متجهم دائمًا، منذ اللحظة التي نخرج فيها من مكتب التوزيع، كم تمنيت أن أكون مثله، لو أنني مجرد سائق فقط، بالتأكيد سيكون شعور الذنب عن فعلتي أقل، وسيكون معاشي لأبنائي أكثر تقبلًا وسِعة حتمًا.

هذا الشتاء البارد الذي يغطي المدينة والطرقات والقطط الضالة، مثلهم أطفالي اللذين ينتظرون مدخر مرتب عملي البذيء آخر الفصل، طمعًا في إجازة لمدينة ساحلية لا ينقطع بها الخدمات على أيدي أمثالي من مرتزقة القانون والهيئات الحكومية.


مديري يعدني بعلاوة إن قمت بعملي على أكمل وجه، وهذا الـ "أكمل وجه" يتطلب فصل أكثر عدد من العدادات بالطبع، دون مشاكل مع أحد، وبأقصى سرعة وسرية ممكنة!  زملاء العمل في الأحياء الراقية، يجدون عملهم أكثر طمأنينة وأقل إثمًا، السكان موفورون ويقضي أكثرهم العطلات في الخارج، لذا فهم خارج احتياج المرافق، وقد يسددون فواتيرهم دفعة واحدة لفترات، وأحيانًا لا يدفعون فواتير أصلًا!


أتذكر زميل مهنة في مصلحة أخرى، كان قد حكى لي عن موقفه المحرج مع عجوز فقيرة في حي بسيط تترجاه أن لا يقطع عنها الخدمة من أجل فاتورة بقيمة بضعة جنيهات، على الأرجح في استطاعته أن يقوم هو بدفعها كصدقة في مسجد مجاور، وبخل بها على عجوز أقل غنى وأكثر تعففًا، يقول زميلي أنه طبّق نص النظام، وفصل العداد، وواصل عمله ودموع العجوز تنهمر مع تمتمات بسيطة منكسرة. ليواجه زميلي في شارع آخر رجلًا ضخمًا ذو مسحة خشنة، خارجًا من منزله الذي يقع ضمن قائمة الفصل لديه، وبينما هو يهمّ بفصل العداد، حتى أمسك بياقته الرجل، وأقسم إن لم يعيد تشغيل العداد لن يتراجع عن كسر رقبته! تذكر زميلي حينها، أن مديره لن يمنعه من كسر رقبته، ولن يقوم بأقل من زيارة عابرة في المستشفى، ولن تغطي العلاوة نفقات علاجه وتعول أسرته في رقاده، فأعاد تشغيل العداد مرغمًا. وعندما تذكر صديقي، العجوز التي تركها تبكي قبل قليل في الشارع الآخر، أخذته شهامة متأخرة، وأعاد لها الخدمة!


مع كل استعمال لرخصتي في قطع الخدمات عن السكان، كنت أتساءل ترى ماذا لو حدث لي مثلما حدث لزميلي؟ كيف سيكون مصير رقبتي إذا طبقت نص النظام؟ وإن تعللت بأن ليس كل البيوت قد يسكنها أمثال هذا الرجل الضخم، ما حجم الأرق النفسي الذي سينتابني فيما لو فصلت الخدمة عن عائلة بحاجة ماسة لها، لديها طفل صغير نائم في غرفة مظلمة، أو عجوز لا تملك ثمن مكيف رديء، أو مريض تحت الأجهزة أو، أو. أصبحت أشعر بإثم لا حجم له، من عملي هذا. لكن ما العمل إذا كانت قائمة قطع الخدمات هي أول فكرة يطالعها صباحي المحبط؟، ما العمل؟ لا فائدة من تكرار طلبات نقلي لقسم آخر، كطباعة الفواتير مثلًا، أو على الأقل نقلي إلى أحياء أخرى، أكثر غنى ورفاهية لا تثير الشعور بالذنب، كبقية زملائي الراضين.


كل وردية عمل، أقرأ وأعاين وأفصل، وأوزع أوراق محبطة على عدادات منطفئة، ذلك اليوم قمت بعمل ضخم حتى بقي ذلك المنزل الأخير، مائة وعشرين فاتورة وزعتها، من بينها سبعون عدادًا فصلت، وخمسون دعوة ظلم على الأقل تلقيتها!، ما أن حركت مفتاح الفصل للمنزل الأخير وانقطعت الخدمة عنه، وبينما زميلي السائق يرسل لي إيماءات لم أنتبه لها تدعوني للحذر!، وإذا برجل ضخم غليظ الملامح، يخرج ويزمجر في وجهي كمارد: "مين ابن الـ .. اللي فصل الخدمة؟"، وما كدت أفكر بالهرب، حتى كانت ياقة قميصي في يده، وجسمي يترنح كما الياقة، وقدماي تتأرجحان كعداد مهتريء!، وترتفعان عن أرضية مدخل البيت، ومفتاح الفصل اللعين في يدي! لم أدر ماذا أفعل؟ عيناه المظلمتان تتقدان شررًا، وتطلبان مني إعادة الخدمة التي انقطعت للتو، وحتى رفيقي السائق هرب ! وبدا أن كل شي تخلى عني، إلا مفتاح الفصل! قدماي المعلقتان، ووجهي أمام الغضب الصارم، والعداد الساكن، كلها تدعوني للتعاون مع الرجل أنا ومفتاح الفصل. 


أعدت زر العداد لوضع التشغيل، ليطلق هو ياقة قميصي وما بقي من مصيري من يده، وترتطم قدماي بالأرض، ثم يأتيني الصوت الهادر: "تاني مرة هلزقك في الحيطة! فاهم؟!". وتسمرت حتى دخل الساكن الضخم للداخل.

كفأر جبان، مشيت أو للأمانة ركضت مسافة لم أحسبها، حتى تراءى لي السائق من بعيد دون أن يحاول الاقتراب! انتهى عملي البذيء ذلك اليوم حزينًا ومحبطًا، مخلفًا شعورًا أكبر بالذنب وبالذل معًا. وفي شهامة متأخرة، وبلا وعي تام، سألت زميلي السائق بحسرة: أين دار العجوز التي بكت اليوم؟

    الاكثر قراءة