بقلم – د. حسن أبوطالب
فى عمر الشعوب أيام لها وقع خاص على النفس، أيام تعد فاصلة بين ما قبلها وما بعدها. بعض هذه الأيام محل توافق مجتمعى حول معناها ودلالتها، وبعضها الآخر يظل محلا للجدل والأخذ والرد وصولا إلى توصيف حقيقى أو أقرب إلى الحقيقة مقارنة بالتوصيفات الأخرى. من بين هذه الأيام يوم الثلاثاء الموافق٢٥ يناير ٢٠١١، والذى له أكثر من تعريف وتوصيف، كل منها يعبر عن رؤية معينة لمعنى هذا اليوم فى تاريخ مصر الحديث.
هناك من يصر على أن هذا اليوم هو يوم ثورة شعبية جارفة أطاحت بنظام فاسد، وآخرون يرون الأمر أقرب إلى مؤامرة حركتها دول وأجهزة استخبارات وقادتها عناصر مصرية ولكنها ارتبطت بقوى خارجية، ولم تكن أكثر من دمى تفعل ما يُطلب منها. التوصيفان ينطلق كل منهما من افتراضات سياسية وفكرية وإيديولوجية معينة، ويركز على زاوية محددة، ثم ينتهى إلى النتيجة التى يعتبرها الأكثر صوابا والأكثر تعبيرا عن الحدث ووزنه التاريخى.
جدل لا ينهى اليوم المجيد للشرطة
فى اعتقادى أن هذا الجدل سوف يستمر فترة طويلة، وفى جزء منه جانب صحى يتعلق بفكرة الحوار بين أعضاء النخبة حول أمر يخص الوطن ككل، وفى جزء آخر جانب سلبى نراه فى الانزلاق إلى تبادل اتهامات الخيانة والعمالة وغيرها من التعبيرات والمفاهيم التى يحدد أبعادها القانون لكنها تُطلق جزافا. وتقابلها اتهامات مضادة بكون الآخر امتدادا للنظام البائد والثورة المضادة والمناهضين لطموحات الشعب المشروعة فى التغيير والتنمية، والغالب على تلك الاتهامات أنها ذات طابع سياسى وهدفها التجريح والتشويه.
وفى خضم هذا الجدل ينسى الكثيرون أن ٢٥ يناير هو فى الأصل يوم مجيد فى التاريخ المصرى، حين وقف جنود وضباط من الشرطة المصرية فى مدينة الإسماعيلية فى مواجهة قوة الاحتلال البريطانية العاتية التى ارادت آنذاك أن تؤدب المصريين وشرطتهم على انتشار العمليات الفدائية فى عموم منطقة القناة ضد معسكرات وجنود الاحتلال. ورغم فارق القوة ونوعية التسليح والإعداد، فقد أصر الجنود المصريون على المقاومة دفاعا عن قسم شرطتهم عن رمزيته، واسشتهد منهم ٦٤ ضابطا وجنديا وأصيب ٢٠٠، وتم أسر عدد كبير بعد أن نفدت ذخيرتهم البسيطة. وهو اليوم الذى اعتبر عيدا للشرطة المصرية يحُتفل به من كل عام. لكن مظاهرات ٢٥ يناير ٢٠١١ أدت إلى خلط المعانى وفتحت أبوابا للجدل ليس من بينها دور الشرطة فى الدفاع عن حرية الوطن.
انفصال عن النخبة
وفى خضم تلك النوعية من الحوارات يتوه المصرى البسيط، ويشعر بمزيد من الانفصال عن النخبة السياسية التى تتورط أكثر وأكثر فى حوار يبدو من وجهة نظره عقيما ولن يقدم ولن يؤخر كثيرا فى شعوره الذاتى بشأن ما حصل قبل ست سنوات، فالمهم له ليس ما حدث ثورة أو مؤامرة أو انتفاضة شعبية، بل إلى أى مدى تغيرت بلاده وتغير معها الأداء السياسى العام، وكيف انعكس ما جرى من أحداث وتطورات على حياته الخاصة وحياة أبنائه وأحفاده. فمبدأ التغيير واتجاهه هو الحاسم لدى المواطن، شرط أن يوفر له نوعية حياة أفضل فى مدى زمنى مناسب.
يحدث هذا الحوار والجدل الصاخب فى ظل وثيقة دستورية أقرها المصوتون عليها بنسبة تفوق ٩٨٪، وهى نسبة عالية تعنى أو تفترض أن ما تحتويه هذه الوثيقة هو محل إجماع شعبى ونخبوى غير مسبوق، ومن بين ما تحتويه هذه الوثيقة الدستورية تعريف ما جرى فى ٢٥ يناير ٢٠١١ بأنه ثورة شعبية فتحت أبوابا كانت مغلقة، من أجل تغييرات كبرى تتعلق بالحرية والعدالة والمواطنة والكرامة الإنسانية والديمقراطية. وهى مجمل الأهداف التى عبرت عنها الشعارات التى رفعها المشاركون فى مظاهرات الميادين فى محافظات مصر المختلفة منذ ٢٥ يناير وما بعدها.
وهنا تبدو المفارقة أن الدستور يتضمن قناعات معينة، وما يجرى بين أطراف من النخبة السياسية والإعلامية يطيح تماما بتلك القناعات. وهو ما يعنى ضمنا أن ما يتضمنه الدستور ليس بالضرورة هو القناعة النهائية لكثيرين أيدوا دستور ٢٠١٤ كوثيقة كلية، ولكنهم يختلفون جذريا مع بعض مبادئه، خاصة ما تضمنتها المقدمة. وقد رأينا نوابا نجحوا بتأييد شعبى كبير فى دوائرهم، وحين أقسموا على قسم البرلمان المتضمن بدوره احترام الدستور والمؤسسات والعمل من أجل الشعب، أكدوا بعد ذلك أنهم يختلفون مع وصف ما حدث فى ٢٥ يناير بأنها ثورة شعبية.
دلالات الثورات الكبرى
والحقيقة أن تاريخ الثورات الكبرى كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية فى روسيا بزعامة لينين والثورة الفلاحية الكبرى بقيادة ماوتسى تونج فى الصين، حدث مثل هذا الجدل الذى ارتبط بالدماء والقتل على نطاق واسع. ونحمد الله أننا ما نشهده من جدل يدور فى أروقة السياسة والإعلام. لكن المهم هنا ما تعنيه تلك الثورات الكبرى من دلالات، وما انتهى إليه علماء الاجتماع والسياسة حول مفهوم الثورة الشعبية والفارق بينها وبين الانتفاضة الشعبية أو الهبة الشعبية. وفى كل هذه المفاهيم هناك عنصر مشترك ومهم للغاية ويتعلق بتحرك الناس بكثافة، مطالبين بحقوق معينة ومعلنين غضهم على حكامهم أو المفوضين منهم، وغالبا لا ينهون تلك التحركات الكبرى إلا بعد تصحيح الوضع أو جزء كبير منه.
وقد تبين من دراسة الثورات الكبرى أنها تتطلب ثلاثة عناصر تتحرك معا ولا ينفصل أى منها عن الأخر، أولها قيادة ذات جاذبية جماهيرية، والثانى رؤية سياسية شاملة تعارض ما هو قائم وتنادى بتغييرات شاملة وتعبر عنها صراحة القيادة الجماهيرية الجاذبة، ثم ثالثا تحركات شعبية جماعية تؤمن بالقيادة وما تطرحه من أفكار ومطالب، وتعتقد أن فرصة التغيير باتت مرهونة بهذا القائد وما يعلنه على الناس. ولما كانت هذه العناصر الثلاثة متكاملة وهدفها الإطاحة الشاملة بالنظام المغضوب عليه، وهو أيضا يملك بعض عناصر القوة، ومن ثم تحدث الصدامات العنيفة والتى يروح آلاف البشر ضحايا لها. غير أن العنف النظامى يفشل أمام العنف الثورى، وحين يستلم القائد الثورى زمام الحكم، تحدث الصراعات الكبرى بين رفاق الأمس إلى أن تستقر الأوضاع ويتم تنفيذ بعض ما كان يبشر به القائد الثورى مدعوما بالمد الشعبى.
اختلاف المسار المصرى
ما جرى فى مصر أخذ مسارا مختلفا تماما، لم يكن هناك قائد ثورى محل إجماع شعبى، وحتى محاولات اصطناع هذا القائد الثورى التى سعى إليها بعض المثقفين والناشطين السياسيين باءت بالفشل التام. صحيح كانت هناك مبادرات من ناشطين سياسيين لدعوة المواطنيين للنزول إلى الشارع تعبيرا عن رفضهم لنظام مبارك ورفضهم لما تقوم به الشرطة من تجاوزات بحق المصريين لاسيما الناشطين السياسيين، ورفضهم لما أشيع عن توريث السلطة والتجاوزات الهائلة فى انتخابات مجلس الشعب فى نهاية ٢٠١٠، وهى التى أدت فعليا إلى استجابات شعبية فاقت ما كان يتصوره أو يتطلع إليه هؤلاء الناشطون السياسيون.
وفى شهادات بعض الذين شاركوا فى التخطيط للنزول فى مظاهرات غضب يومى ٢٥ يناير ثم الجمعة ٢٨ يناير، تأكيدات بأن ما طمحوا إليه كان توجيه رسالة قوية لمبارك لكى يغير وزير الداخلية وأن ينهى رسميا كل ما يُقال عن توريث الرئاسة لنجله جمال. ولم يخطر ببال أحدهم إسقاط النظام على النحو الذى جرى عليه لاحقا. غير أن سقوط الشرطة بفعل الصدام مع أعداد هائلة من المتظاهرين، ثم قرار مبارك بنزول قوات الجيش لتأمين الوضع العام، غيّر من كل المعادلات وطرح أبعادا جديدة لم تكن فى حسبان أى أحد.
مشكلة الناشطين وأخطاؤهم
جزء من مشكلة الناشطين السياسيين أنهم اعتقدوا أن بإمكانهم أن يحركوا الشارع كيفما يشاءون ووقت ما يشاءون، وقد أدت الاستجابات الشعبية العفوية فى الأسابيع الأولى لما بعد ٢٥ يناير وما بعد تنحى مبارك وتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة زمام السلطة مؤقتا، لدعوات الناشطين إلى تبلور شعور لدى هؤلاء الناشطين بالثقة فى قدرتهم على توجيه الأحداث وتحقيق كل الشعارات المطالب التى رفعت فى المظاهرات والاعتصامات، وكأنهم هم وحدهم أصحاب القرار. ومع التمادى فى النزول إلى الشارع، يقابله فوضى أمنية وتوقف لمظاهر الحياة العملية، وقلة الرزق لدى فئات واسعة من الشعب، بدأت التوجهات الشعبية فى التحول من الإعجاب بالناشطين إلى الضجر ثم الغضب وأخيرا الكراهية.
كانت المشكلة الكبرى أن هؤلاء الناشطين لم يستوعبوا القدرة الاستيعابية للشعب على توقف الرزق وشيوع الفوضى، وكانوا يتحركون بدوافع مختلفة وبخلفيات فكرية وسياسية مختلفة، ومنهم من وقع فريسة التحالف مع جماعة الإخوان المراوغة، ومنهم من تصور أنه قائد ثورى لا يشق له غبار، ومنهم من تعالى على حاجات الناس اليومية ولم يوليها أى اهتمام، والكثيرون تصوروا أنهم وحدهم القادرون على صياغة مصر من جديد. ولكنهم فى النهاية وجدوا أنفسهم بعيدين عن أى غطاء شعبى، كما كان الوضع فى الأيام الأولى لما بعد ٢٥ يناير.
كل ذلك يمكن رده إلى غياب قائد للثورة محل توافق عام من الشعب، فضلا عن غياب رؤية شاملة للتغيير، ناهيك عن قوة مؤسسات الدولة المصرية وقدرتها على امتصاص مظاهر الغضب الشعبى، بل إن بعض هذه المؤسسات كالقضاء رأى فيها الشعب وسيلته الرئيسية فى المحاسبة التى نادى بها لمن ظلمه فى السابق. كما لعب قفز جماعة الإخوان على حركة جزء من الشارع وقبول بعض الناشطين قيادة الإخوان رغم علمهم بالطبيعة السرية لهذه الجماعة، وهو عامل خطر فى حد ذاته، مما أفقدهم تأييد الناس الذين نظروا إلى كثيرين منهم باعتبارهم مجرد أدوات بيد الغير ولم يعودوا محل ثقة.
تحرك الشعب عنصر حاسم
ما مرت به مصر على النحو السابق لا يقلل من قيمة تحركات الناس وتطلعهم إلى التغيير، فهم العنصر الرئيسى وبدونه تختلف الأمور كليا. ومن ثم يبدو التحليل العملى قياسا إلى الثورات الشعبية الكبرى فى التاريخ، أن الحالة المصرية تطرح أبعادا أخرى، إنها انتفاضة شعبية فى الصميم، ساعدت على بدء البلاد مرحلة جديدة، أهم ما فيها أنها انهت نظام مبارك بحزبه ورموزه، ورفعت من حالة التسييس لدى جموع المصريين، ووضعت مبادئ يصعب على أى رئيس أن يتجاوزها، فإن لم يعمل لصالح الناس بعيدا عن العناصر الفاسدة، فلن يفلت من الحساب.