مصر دولة ذات هوية وكيان؛ لم تتأثر بمن تعاقب عليها من مستعمّرين ورفض شعبها التطبع بعادات المُحتَل أو الانصياع لثقافاته ومسلماته؛ فتفردت بعلمها ومثقفيها وقادتها على مرّ العصور لكنها لم تَلفُظ الثقافات الوافدة، فاستخلصت منها ما يفيدها، وحتى يومنا هذا يعي الغرب جيداً ثقل مصر الثقافى والعلمى فى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وقدرتها على قيادة المنطقة وحلحلة وإيجاد الحلول لكثير من القضايا الإقليمية بالإضافة إلى بُعد تأثيرها كونها قِبلة علم وحاضنة للعديد من الطُلاب والجنسيات.
ولعل فرنسا هى النموذج الأمثل الغربى الذى يسعى على مر التاريخ لكسب الحليف المصرى؛ سواء بنشر لُغتها الأم فى مصر أو التبادل الثقافى والعلمى والذى يعود بالمنفعة على الطرفين وإيماناً منها بإرساء الفرانكوفونية العالمية كدور عالمى لها بعدما تقلص دورها بالمد والهيمنة الأمريكية وترسيخاً لهدفها الإيجابى والذي أرادت به محو تهمة نواياها الاستعمارية لسنوات طوال بدأت فى نشر الثقافة الفرنسية فى صورة لغة ثانية داخل مصر مع تبادل الخبرات كتفعيل لمصطلح فرانكوفونية .
تلك اللغة التى خطت أولى خطواتها برداء استعمارى مع حملة بونابرت 1798 حيث كانت لها انعكاسات ثقافية واجتماعية أهمها تشكيل نُخبة ثقافية أسهمت فيما أُطلق عليه حركة النهضة العربية ثم أصبحت اللغة الفرنسية تحت حُكم محمد على باشا منذ أوائل القرن التاسع عشر لغة المجتمع الراقى ولغة الأعمال والإدارة وانتشرت المدارس الكاثوليكية فى الإسكندرية والقاهرة والإسماعيلية مع إرسال البعثات لباريس، وارتفع عدد الكتاب "الفرانكوفيين" منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى 300 كاتب وبلغ النشاط الأدبى أوجه فى الفترة من 1920 إلى 1950، حتى جاءت ثورة 1952 وأممّت المدارس الفرنسية كردة فعل عادلة إزاء العدوان الثلاثى وسارت فى اتجاه تعريب المناهج وتقليص اللغة الفرنسية تدريجياً ومن بعدها اقتصرت الفرنسية كلغة على العشرات من المدارس الفرنسية المعُترف بها تحت إشراف مصرى وخَفُت التواصل المصرى-الفرنسى، لكن مع تدشين الجامعة الفرانكوفونية فى الإسكندرية عام 1990 عادت الثقافة الفرنسية للأضواء من جديد فى ثوب تنويرى وثقافى بمنفعة مُشتركة.
وبدأت الوكالة الجامعية الفرنكوفونية (AUF) كواحدة من أكبر مؤسسات التعليم العالى والبحث فى العالم فى الظهور كمُحرك رئيسي للمنفعة المُتبادلة عالمياً لما تضمه الوكالة من 990 جامعة وشبكات جامعية، ومراكز بحث علمى، وتضم عضوية الوكالة حاليًا 19 جامعة مصرية، منها جامعات القاهرة، وعين شمس، والمنصورة، والإسكندرية، والجامعة الفرنسية بالقاهرة، وجامعة سنجور بالإسكندرية والموجود بها مكتب للوكالة في مصر منذ عام 1992- ، لما له من دور فى فتح قنوات جديدة للتعاون بين الطرفين.
وتستقبل شبكة الكليات والشعب الفرانكوفونية ما يقرب من 2500 طالب و150 بعثة تعليمية سنوياً حتى توقيع اتفاقية إعادة تأسيس الجامعة الفرنسية فى مصر، والتى تعد ركيزة للتعاون الأكاديمى المصرى الفرنسى، فى يناير 2019 وذلك بالتزامن مع بداية العام الثقافى "فرنسا- مصر 2019" - بقرار من رئيسي الدولتين – بمناسبة مرور 150 عاماً على افتتاح قناة السويس، وتنص الاتفاقية (التى تستمر لمدة عشر سنوات)، على أن الجامعة الفرنسية هي جامعة أهلية لا تهدف إلى الربح، وتخضع للمسئولية الأكاديمية المزدوجة ولإشراف وزيرى التعليم العالى المصرى والفرنسى مما عزّز سبل التعاون والتبادل الطلابى وأبرز الدور المصرى كدولة حاضنة للطلاب الأفارقة.
"إن الحوار شكل من أشكال الصراع، ذلك أن الحوار يتطلب أولاً أن نعترف بالآخر وهذا صراع مُميت مع الذات لكي نعترف به”؛ قد تصلُح هذه الجملة لتختصر إشكالية العلاقات الثقافية بين فرنسا وبعض دول العالم العربي ماضياً وحاضراً؛ إذ لطالما بقيت صورتها مُقترنة بصورة المستعمر الأجنبى الذى يهدد الهوية ومن جهة ثانية لطالما كانت النظرة الفرنسية إلى العالم العربى استعلائية يطغى عليها طابع الاستشراق بمعناه السلبى إلا أن الثلث الأخير من القرن العشرين شهد تحولاً متبادلاً في نظرة كل من الشرق والغرب إلى الآخر تظهر معالمه في الإنتاج الثقافي.
لم يعد المثقف الفرنكفوني مثلاً في العالم العربي ضحية تهمة الاستلاب للغرب, لأنه يتجذر في ثقافته الأصلية لينطلق منها إلى العالمية بواسطة اللغة الفرنسية.
ولم تعد هذه اللغة لغة الآخر الغريب، لأنها أخضعت لاستعمالات جديدة تتطلبها الذات التي تعبر عن هويتها الخاصة من خلالها ؛ولا واقع ودليل أبلغ من النموذج المصرى فمصر بلد حاضنة للثقافات على مدار تاريخها لم تؤثر أي ثقافة وافدة على هويتها أو هوية شعبها، كما أن ذات مصر مُحصنة بالقدر الكافي الذي يسمح لها بإقامة علاقة التفاعل الحقيقي مع هوية غيرية فما تخاف منه الدول والشعوب الفرانكوفونية من خطورة تسلط ثقافة مُعينة تفرض نفسها بفعل التفوق الاقتصادى والتكنولوجى لا يُطبَق على مصر التى ترعى أى ثقافة زائرة لها وتحترم تلك الأخيرة قاعدة الخصوصية والاختلاف فى البيئة المصرية ،فأهلاً بالتعاون الثقافى والعلمى بين مصر وفرنسا وأهلاً بالخطوات الجديدة على طريق التقدم .