الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

تحقيقات

كرداسة.. بين سيد قطب ومذبحة القسم

  • 28-4-2021 | 14:29

مذبحة كرداسة

طباعة
  • سامح فايز

(1)

هرج ومرج انتاب الجميع، أغسطس 2013، بعد قرار فض اعتصامي رابعة والنهضة الذي جاوز يومه الأربعون، تناقلت أنباء عن صدور تعليمات لقواعد الإخوان بمهاجمة أقسام الشرطة ومؤسسات الدولة، المشهد الذي كنا نود نسيانه والذي حدث في جمعة الغضب يناير 2011 يتكرر، كثيرون قتلوا من الجماعات الدينية إلى جانب مصابين ومعتقلين أعرفهم وبعضهم كانت تجمعني بهم صداقات شخصية، المسألة تأزمت أكثر بسبب سكني في محيط مركز كرداسة، رن هاتفي لأجد صوت صديقي يخبرني قائلا:"فيه مجزرة عند قسم كرداسة". اقشعر بدني وأجريت عدة اتصالات جميعها أكدت الخبر وطالبني الأصدقاء بالاختفاء تلك الفترة، أخبرني شهود العيان أن ملثمين اشتبكوا مع قوات الشرطة لبضع ساعات وانتهى الأمر بقتلهم ثم التمثيل بجثثهم، الغريب أن المقتحمين تركوا أفراد الأمن والمجندين يرحلون وقالوا لهم:"انتم غلابة ومعركتنا مش معاكم". عاد إلى ذهني فقه الجماعة الإسلامية في الثمانينات من القرن الماضي والفتاوى التي كانت تدور في فلك هل قتل عساكر الأمن المركزي حلال أم حرام خاصة وأن حربنا مع النظام وليست معهم؟!. الأغرب أن الجميع أكد أن الملثمين من محيط كرداسة ولم يتم الإتيان بهم من خارجها، كرداسة يقطنها عشرات الآلاف، إن كان يسيطر عليها التيار الديني فذلك ليس معناه أنها قندهار كما روج لذلك الإعلام، فهى تحمل بين جنباتها مقرات لحزب الوفد والكرامة ومن أبنائها ناشطون في حملات تمرد وحركة 6 ابريل، فكرت في رد فعل النظام الحاكم ضد أهل كرداسة وتذكرت ما حدث فيها في العام 1965، لا أحد في كرداسة استطاع أن ينسى ما حدث في ذلك العام، قصة يتناقلها الأباء والأحفاء، قصة عروس كرداسة!

(2)

شهدت كرداسة في التاسعة من مساء أغسطس 1965؛ حملة موسّعة من الشرطة العسكرية، للقبض على جميع الأسماء التي ذكرها علي عشماوي، عضو تنظيم  الإخوان، في اعترافاته الخاصة بقضية تنظيم 1965، الساعي إلى إعادة إحياء جماعة الإخوان من جديد، وكانت أسرة النقباء في قرية كرداسة، من تلك الأسماء التي ذكرها عشماوي، وعلى رأس الأعضاء فيها، سيد نزيلي محمد العوضية، وأحمد باوة، وجابر رزق الفولي.

في نهاية الشارع، الذي يبعد مسافة كيلو متراً واحداً عن منزل سيد نزيلي، ترجّلت الشرطة العسكرية من السيارات، وفي الطّريق، لفت انتباه الناس أنّ مجموعة من الغرباء يسيرون في الشارع، يرتدون زيّاً مدنياً، يسألون عن سيد نزيلي، في البداية، ظنّوا أنّهم رجال جاؤوا مباركين، لنزيلي وزوجته فوزية عبد المجيد عبد السميع، فقد عقد قرانهم منذ تسعة أيام خلت، في الثاني عشر من أغسطس 1965، إلّا أنّ الشرطة التي لم تجد نزيلي في منزله، اصطحبت زوجته معها، حتّى يسلّم زوجها نفسه.

في كتابه "الإخوان وعبد الناصر القصة الكاملة لتنظيم 1965"؛ كتب أحمد عبد المجيد عبد السميع، ابن كرداسة، وأحد المقبوض عليهم في القضية، تفاصيل الحادثة، مشيراً إلى أنّ قوات الشرطة العسكرية دخلت القرية مرتدية زيّاً مدنياً لا يفصح عن هويتهم، ما ألقى الريبة في نفوس أهالي القرية، فاعتدوا عليهم بعد أن شاهدوهم يقتادون زوجة نزيلي عوضية، وهي لم تزل عروساً في أسبوعها الأول؛ فقد ظنوا أنّهم لصوص يخطفون الزوجة.

إثر المواجهات، أصيب أحد الضبّاط، وفرّ آخرون، وبعد مرور أقل من ساعة على الاشتباكات، حوصرت كرداسة، بالطائرات الحربية والمدرعات؛ بحثاً عن سيد نزيلي وعروسه، في الموقعة التي سطّرت لها أدبيات الإخوان باسم "عروس كرداسة".

ولد نزيلي العوضية في 8 مارس عام 1938، بقرية كرداسة، وتدرج في مدارسها حتى التحق بالجامعة، وحصل على ليسانس الآداب في علم الإجتماع. وفي يناير عام 1976، سافر إلى المملكة العربية السعودية ليعمل مديراً للنشاط الطلابي بالجامعة الإسلامية لمدة عشر أعوام.

التحق نزيلي العوضية بتنظيم الإخوان عام 1952، على يد إبراهيم عبد الفتاح خليفة، وجابر رزق الفولي، وظلّ يترقّى إلى أن نال عضوية مجلس شورى الإخوان، وكان مرشّح تنظيم الإخوان في انتخابات مجلس الشورى عام 1989، عن دائرة الجيزة. وأصبح أيضاً مسؤول المكتب الإداري لجماعة الإخوان بمحافظة الجيزة، حتى أحداث يناير 2011 في مصر، غير أنّ القرية التي أصبح أحد أبنائها مسؤول الإخوان في أكثر المحافظات نفوذاً للتيار الإسلامي، حدث وأن أخرجت آخرين، كان لهما النصيب الأوفر في طريق التيار الإسلامي إلى داعش!

كتب عضو جماعة الإخوان، ابن قرية كرداسة، جابر رزق، في كتابه "مذابح الإخوان في سجون ناصر": "إنّ دعوة الإخوان وجدت طريقها إلى القرية، في النصف الأول من القرن العشرين، عندما حضر البنا إلى كرداسة مؤسساً شعبة الإخوان فيها، وكان نائب الشعبة عثمان عبد الرحمن عثمان، لتصبح واحدة من أكبر شعب الإخوان في مصر"، بحسب ما أورد جابر رزق في كتابه، كرداسة شعبة تتبعها ثماني قرى صغيرة، مثل قرى: ناهيا، وأبو رواش، وكفر حكيم، وكفر غطاطي، وبني مجدول.

(3)

عن قرية أبو رواش يحكي جابر رزق الفولي، في كتابه، كيف كانت تستخدمها الجماعة لتدريبات النظام الخاص، لتميزها بصحراء شاسعة، وجبال تجعل المكان هو الأنسب لمثل تلك التدريبات.

أما عن مؤسس شعبة الإخوان في كرداسة، عثمان عبد الرحمن عثمان، فلا توجد معلومات كافية عنه، غير أنّ الاسم نفسه ذكر ضمن القضية الشهيرة "السيارة الجيب"؛ عندما قبض على مجموعة من أعضاء النظام الخاص "التنظيم المقاتل للجماعة" بطريق الصدفة، في نوفمبر 1948، ومعهم مجموعة وثائق لعمليات الإخوان المسلحة، وكان من بين من قبض عليهم، الطالب في كلية الحقوق عبد الرحمن عثمان عبد الرحمن، ورغم عدم وجود أيّ ذكر في أرشيف الجماعة لمعلومات توضح هل هناك علاقة بين عضو النظام الخاص ومؤسس شعبة الإخوان في كرداسة، إلّا أنّ استخدام القرية لتدريبات النظام الخاص، ربّما يشير إلى أنّ الاسم هو للشخص نفسه.

ولد في كرداسة أيضاً، أحمد عبد المجيد عبد السميع عام 1933، وأكمل مسيرته التعليمية حتى حصل على ليسانس الحقوق، ليعمل بعدها موظفاً في وزارة الحربية، وتزوّج بابنة محمد يوسف هواش، أحد ثلاثة أعدموا في قضية تنظيم 1965 مع عبد الفتاح إسماعيل وسيد قطب، وتزوّجت أخته فوزية "عروس كرداسة" من السيد نزيلي، وتزوجت أخته الثانية أم حذيفة من علي عشماوي، ثم انفصلت عنه بعدما أشاعت الجماعة أنّ عشماوي انشقّ عنها، وأدلى باعترافات كاملة عن التنظيم، ثم تزوجت من عبد الرحمن بارود، الشاعر الفلسطيني، وأحد مؤسسي تنظيم الإخوان بفلسطين، وكان حينها يدرس الآداب في جامعة القاهرة، في منتصف الستينيات من القرن الماضي.

تولّى أحمد عبد المجيد مسؤولية قيادة الوجه القبلي، كما تولّى أيضاً مسؤولية جمع المعلومات، والاتصال بالإخوان، بمساعدة جابر رزق، في الفترة بين عام 1957 حتى الصدام مع الدولة عام 1965، في محاولات منهم لإعادة إحياء الجماعة من جديد.

عندما قبض عليهم في قرية كرداسة، صدر الحكم ضدّ أحمد عبد المجيد وصهره علي عشماوي بالإعدام، مع سيد قطب، ومحمد يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل، غير أنّ الحكم خفِّف بعد ذلك للأشغال الشاقة المؤبّدة، وفي القضية نفسها صاحبهم في السّجن الشيخ عبد المجيد الشاذلي، وقد سبق أن تتلمذ في الإخوان على يد محمد يوسف هواش.

(4)

في منتصف السبعينيات، بعد تصالح نظام السادات مع جماعات الإسلام السياسي، على خلفية تدخّل الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية، خرج عبد المجيد والشاذلي من السّجن. وفي العام 1975، أسس الشاذلي مع أحمد عبد المجيد عبد السميع جماعة "أهل السنة والجماعة"، التي اشتهرت باسم "تيار القطبيين"، وهو غير التيار القطبي الذي سيطر على تنظيم الإخوان فى السنوات الأخيرة.

وانطلاقاً من تاريخ 1965، أصبحت قرية كرداسة نقطة التحول الأبرز في تاريخ السلفية الجهادية المعاصر؛ فمنها خرج أحد مؤسسي دعوة "أهل السنة والجماعة"، التي تأثّر بها فى سيناء منتصف الثمانينيات، الشيخ أسعد البيك، الذي قبض عليه بعد ثورة يونيو 2013؛ باعتباره زعيم السلفية الجهادية في سيناء، وكتب عن ذلك الباحث وعضو "الجبهة السلفية"، أحمد فريد مولانا، في بحث نشره المعهد المصري للدراسات التابع لتنظيم الإخوان، تحت عنوان "من التوحيد والجهاد إلى أنصار بيت المقدس"، لافتاً إلى أنّ البيك كان أحد المقبوض عليهم على خلفية تفجيرات طابا وشرم الشيخ، عامي 2004/ 2005، التي نفّذتها جماعة "التوحيد والجهاد"؛ فقد كانت دعوته صاحبة التأثير الأكبر في ابن سيناء، خالد مساعدة، مؤسس تنظيم "التوحيد والجهاد"، وهو التنظيم نفسه الذي فرّ أعضاؤه من السجون، بعد أحداث يناير 2011، متوجهين إلى سيناء، ليعيدوا تأسيسه مرّة أخرى، مع آخريين من غزة الفلسطينية، على حدود سيناء، ينتمون للسلفية للجهادية، لكن هذه المرّة أصبح اسم التنظيم "أنصار بيت المقدس"، الذي بايع داعش فى سوريا والعراق عام 2014، "ولاية سيناء".

(5)

في التقسيم الإداري لقرى مصر؛ هناك كفور وعزب ونجوع، وهناك توابع أصغر تتبع القرى الأكبر، ومن توابع قرية كرداسة كانت قرية ناهيا، وأبو رواش، وكفر غطاطي، وهي القرى الأبرز والأكثر تأثراً بدعوة الإخوان، وأيضاً كانت تلك القرى حاضنة لجماعات سلفية أخرى، فخرج عبود وطارق الزمر القياديان في الجماعة الإسلامية من ناهيا، ومن أبو رواش انطلق الهجوم الأكثر دموية، الذي واجهته الشرطة المصرية بعد أحداث يونيو 2013، حين توجّه سلفيون مسلّحون إلى مقرّ قسم الشرطة في كرداسة، واشتبكوا معهم في معركة انتهت باستشهاد 12 ضابطاً ومجنداً، وكان أحد أبرز المتهمين في اقتحام مركز شرطة كرداسة، عضو تنظيم الإخوان، وعضو البرلمان عن التيار الديني، عبد السلام زكي بشندي، ابن زكي بشندي، أحد المتهمين في تنظيم 1965، وأحد أبرز مؤسسي دعوة الإخوان فى كرداسة.

 

وفي كتابه «القاموس الجغرافي للبلاد المصرية»، ذكر المؤلف محمد رمزي، أنه في مصر القديمة كانت هناك قرية اسمها «نِـهت»، كانت مكرّسة لعبادة الإلهة هاتور، إلهة السماء، والحب، والجمال، والأمومة، والسعادة، والموسيقى، والخصوبة، ويذكرها معجم البلدان باسم «نهيا»، أما الخطط التوفيقية فتشير إليها بـ«نهية».

وفي العصر الحديث أصبح اسم القرية، «ناهيا»، والتي شهدت في أكتوبر 1973 استشهاد أحد أبنائها، اللواء «أحمد عبود الزمر»، أحد أبطال معركة «رأس العش»، قائد الفرقة «23 مشاة ميكانيكي» في حرب أكتوبر عام 1973، وكانت المهمة المسندة إليه تصفية «ثغرة الدفرسوار».

غير أن القرية المصرية القديمة، التي أنجبت قائداً حاز وسام نجمة الشرف العسكرية، شهدت في 14 أغسطس 2013، مشاركة أبنائها في أكبر مذبحة شهدتها قوات الشرطة المصرية منذ سنوات.

وكان على رأس المطلوب القبض عليهم في تلك القضية، محمد نصر الدين الغزلاني، ابن قرية كرداسة، الهارب، والصادر ضده حكماً بالإعدام.

نصر الغزلاني، الذي عين نفسه أميراً على كرداسة لأيام قليلة، كان قد سبق وخرج من السجن قبل سنوات، ضمن حملات العفو التي صدرت بحق آلاف الجهاديين المقبوض عليهم قبل يناير 2011، وقد سبق اتهامه في قضية تنظيم «طلائع الفتح» عام 1993 والتي اعتقل على إثرها 1000 عضواً من جماعة الجهاد المصرية، والتي كان يرأسها في ذلك الوقت أيمن الظواهري. ورغم أن الغزلاني لفت الأنظار إليه، إلا أن هناك شخص آخر ساهم فى الأحداث رغم إعدامه في القاهرة عام 2001؛ «أحمد إبراهيم السيد النجار» ابن قرية «ناهيا»، مسئول لجنة التنظيم المدني في جماعة الجهاد المصرية عام 1994، المقبوض عليه في قضية «العائدين من ألبانيا» عام 1998.

(6)

 تاريخ ممتد من العنف، عاشته قرية تمتد جذورها إلى مصر القديمة، ويشتهر أبناءها حتى الأن بالصناعات التراثية، يأتيهم الناس من كل حدب وصوب لاقتناء منتجاتهم، غير أن جغرفيا المكان، الواقع على مشارف صحراء الجيزة، جعلها بيئة خصبة لانتشار أفكار الجماعات المتطرفة، التي لا تزال تنتظر العودة من جديد، ظنا منها أن الضغط على مصر خارجيا قد يؤتي ثماره!كرداسة.. بين سيد قطب ومذبحة القسم

سامح فايز

(1)

هرج ومرج انتاب الجميع، أغسطس 2013، بعد قرار فض اعتصامي رابعة والنهضة الذي جاوز يومه الأربعون، تناقلت أنباء عن صدور تعليمات لقواعد الإخوان بمهاجمة أقسام الشرطة ومؤسسات الدولة، المشهد الذي كنا نود نسيانه والذي حدث في جمعة الغضب يناير 2011 يتكرر، كثيرون قتلوا من الجماعات الدينية إلى جانب مصابين ومعتقلين أعرفهم وبعضهم كانت تجمعني بهم صداقات شخصية، المسألة تأزمت أكثر بسبب سكني في محيط مركز كرداسة، رن هاتفي لأجد صوت صديقي يخبرني قائلا:"فيه مجزرة عند قسم كرداسة". اقشعر بدني وأجريت عدة اتصالات جميعها أكدت الخبر وطالبني الأصدقاء بالاختفاء تلك الفترة، أخبرني شهود العيان أن ملثمين اشتبكوا مع قوات الشرطة لبضع ساعات وانتهى الأمر بقتلهم ثم التمثيل بجثثهم، الغريب أن المقتحمين تركوا أفراد الأمن والمجندين يرحلون وقالوا لهم:"انتم غلابة ومعركتنا مش معاكم". عاد إلى ذهني فقه الجماعة الإسلامية في الثمانينات من القرن الماضي والفتاوى التي كانت تدور في فلك هل قتل عساكر الأمن المركزي حلال أم حرام خاصة وأن حربنا مع النظام وليست معهم؟!. الأغرب أن الجميع أكد أن الملثمين من محيط كرداسة ولم يتم الإتيان بهم من خارجها، كرداسة يقطنها عشرات الآلاف، إن كان يسيطر عليها التيار الديني فذلك ليس معناه أنها قندهار كما روج لذلك الإعلام، فهى تحمل بين جنباتها مقرات لحزب الوفد والكرامة ومن أبنائها ناشطون في حملات تمرد وحركة 6 ابريل، فكرت في رد فعل النظام الحاكم ضد أهل كرداسة وتذكرت ما حدث فيها في العام 1965، لا أحد في كرداسة استطاع أن ينسى ما حدث في ذلك العام، قصة يتناقلها الأباء والأحفاء، قصة عروس كرداسة!

(2)

شهدت كرداسة في التاسعة من مساء أغسطس 1965؛ حملة موسّعة من الشرطة العسكرية، للقبض على جميع الأسماء التي ذكرها علي عشماوي، عضو تنظيم  الإخوان، في اعترافاته الخاصة بقضية تنظيم 1965، الساعي إلى إعادة إحياء جماعة الإخوان من جديد، وكانت أسرة النقباء في قرية كرداسة، من تلك الأسماء التي ذكرها عشماوي، وعلى رأس الأعضاء فيها، سيد نزيلي محمد العوضية، وأحمد باوة، وجابر رزق الفولي.

في نهاية الشارع، الذي يبعد مسافة كيلو متراً واحداً عن منزل سيد نزيلي، ترجّلت الشرطة العسكرية من السيارات، وفي الطّريق، لفت انتباه الناس أنّ مجموعة من الغرباء يسيرون في الشارع، يرتدون زيّاً مدنياً، يسألون عن سيد نزيلي، في البداية، ظنّوا أنّهم رجال جاؤوا مباركين، لنزيلي وزوجته فوزية عبد المجيد عبد السميع، فقد عقد قرانهم منذ تسعة أيام خلت، في الثاني عشر من أغسطس 1965، إلّا أنّ الشرطة التي لم تجد نزيلي في منزله، اصطحبت زوجته معها، حتّى يسلّم زوجها نفسه.

في كتابه "الإخوان وعبد الناصر القصة الكاملة لتنظيم 1965"؛ كتب أحمد عبد المجيد عبد السميع، ابن كرداسة، وأحد المقبوض عليهم في القضية، تفاصيل الحادثة، مشيراً إلى أنّ قوات الشرطة العسكرية دخلت القرية مرتدية زيّاً مدنياً لا يفصح عن هويتهم، ما ألقى الريبة في نفوس أهالي القرية، فاعتدوا عليهم بعد أن شاهدوهم يقتادون زوجة نزيلي عوضية، وهي لم تزل عروساً في أسبوعها الأول؛ فقد ظنوا أنّهم لصوص يخطفون الزوجة.

إثر المواجهات، أصيب أحد الضبّاط، وفرّ آخرون، وبعد مرور أقل من ساعة على الاشتباكات، حوصرت كرداسة، بالطائرات الحربية والمدرعات؛ بحثاً عن سيد نزيلي وعروسه، في الموقعة التي سطّرت لها أدبيات الإخوان باسم "عروس كرداسة".

ولد نزيلي العوضية في 8 مارس عام 1938، بقرية كرداسة، وتدرج في مدارسها حتى التحق بالجامعة، وحصل على ليسانس الآداب في علم الإجتماع. وفي يناير عام 1976، سافر إلى المملكة العربية السعودية ليعمل مديراً للنشاط الطلابي بالجامعة الإسلامية لمدة عشر أعوام.

التحق نزيلي العوضية بتنظيم الإخوان عام 1952، على يد إبراهيم عبد الفتاح خليفة، وجابر رزق الفولي، وظلّ يترقّى إلى أن نال عضوية مجلس شورى الإخوان، وكان مرشّح تنظيم الإخوان في انتخابات مجلس الشورى عام 1989، عن دائرة الجيزة. وأصبح أيضاً مسؤول المكتب الإداري لجماعة الإخوان بمحافظة الجيزة، حتى أحداث يناير 2011 في مصر، غير أنّ القرية التي أصبح أحد أبنائها مسؤول الإخوان في أكثر المحافظات نفوذاً للتيار الإسلامي، حدث وأن أخرجت آخرين، كان لهما النصيب الأوفر في طريق التيار الإسلامي إلى داعش!

كتب عضو جماعة الإخوان، ابن قرية كرداسة، جابر رزق، في كتابه "مذابح الإخوان في سجون ناصر": "إنّ دعوة الإخوان وجدت طريقها إلى القرية، في النصف الأول من القرن العشرين، عندما حضر البنا إلى كرداسة مؤسساً شعبة الإخوان فيها، وكان نائب الشعبة عثمان عبد الرحمن عثمان، لتصبح واحدة من أكبر شعب الإخوان في مصر"، بحسب ما أورد جابر رزق في كتابه، كرداسة شعبة تتبعها ثماني قرى صغيرة، مثل قرى: ناهيا، وأبو رواش، وكفر حكيم، وكفر غطاطي، وبني مجدول.

(3)

عن قرية أبو رواش يحكي جابر رزق الفولي، في كتابه، كيف كانت تستخدمها الجماعة لتدريبات النظام الخاص، لتميزها بصحراء شاسعة، وجبال تجعل المكان هو الأنسب لمثل تلك التدريبات.

أما عن مؤسس شعبة الإخوان في كرداسة، عثمان عبد الرحمن عثمان، فلا توجد معلومات كافية عنه، غير أنّ الاسم نفسه ذكر ضمن القضية الشهيرة "السيارة الجيب"؛ عندما قبض على مجموعة من أعضاء النظام الخاص "التنظيم المقاتل للجماعة" بطريق الصدفة، في نوفمبر 1948، ومعهم مجموعة وثائق لعمليات الإخوان المسلحة، وكان من بين من قبض عليهم، الطالب في كلية الحقوق عبد الرحمن عثمان عبد الرحمن، ورغم عدم وجود أيّ ذكر في أرشيف الجماعة لمعلومات توضح هل هناك علاقة بين عضو النظام الخاص ومؤسس شعبة الإخوان في كرداسة، إلّا أنّ استخدام القرية لتدريبات النظام الخاص، ربّما يشير إلى أنّ الاسم هو للشخص نفسه.

ولد في كرداسة أيضاً، أحمد عبد المجيد عبد السميع عام 1933، وأكمل مسيرته التعليمية حتى حصل على ليسانس الحقوق، ليعمل بعدها موظفاً في وزارة الحربية، وتزوّج بابنة محمد يوسف هواش، أحد ثلاثة أعدموا في قضية تنظيم 1965 مع عبد الفتاح إسماعيل وسيد قطب، وتزوّجت أخته فوزية "عروس كرداسة" من السيد نزيلي، وتزوجت أخته الثانية أم حذيفة من علي عشماوي، ثم انفصلت عنه بعدما أشاعت الجماعة أنّ عشماوي انشقّ عنها، وأدلى باعترافات كاملة عن التنظيم، ثم تزوجت من عبد الرحمن بارود، الشاعر الفلسطيني، وأحد مؤسسي تنظيم الإخوان بفلسطين، وكان حينها يدرس الآداب في جامعة القاهرة، في منتصف الستينيات من القرن الماضي.

تولّى أحمد عبد المجيد مسؤولية قيادة الوجه القبلي، كما تولّى أيضاً مسؤولية جمع المعلومات، والاتصال بالإخوان، بمساعدة جابر رزق، في الفترة بين عام 1957 حتى الصدام مع الدولة عام 1965، في محاولات منهم لإعادة إحياء الجماعة من جديد.

عندما قبض عليهم في قرية كرداسة، صدر الحكم ضدّ أحمد عبد المجيد وصهره علي عشماوي بالإعدام، مع سيد قطب، ومحمد يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل، غير أنّ الحكم خفِّف بعد ذلك للأشغال الشاقة المؤبّدة، وفي القضية نفسها صاحبهم في السّجن الشيخ عبد المجيد الشاذلي، وقد سبق أن تتلمذ في الإخوان على يد محمد يوسف هواش.

(4)

في منتصف السبعينيات، بعد تصالح نظام السادات مع جماعات الإسلام السياسي، على خلفية تدخّل الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية، خرج عبد المجيد والشاذلي من السّجن. وفي العام 1975، أسس الشاذلي مع أحمد عبد المجيد عبد السميع جماعة "أهل السنة والجماعة"، التي اشتهرت باسم "تيار القطبيين"، وهو غير التيار القطبي الذي سيطر على تنظيم الإخوان فى السنوات الأخيرة.

وانطلاقاً من تاريخ 1965، أصبحت قرية كرداسة نقطة التحول الأبرز في تاريخ السلفية الجهادية المعاصر؛ فمنها خرج أحد مؤسسي دعوة "أهل السنة والجماعة"، التي تأثّر بها فى سيناء منتصف الثمانينيات، الشيخ أسعد البيك، الذي قبض عليه بعد ثورة يونيو 2013؛ باعتباره زعيم السلفية الجهادية في سيناء، وكتب عن ذلك الباحث وعضو "الجبهة السلفية"، أحمد فريد مولانا، في بحث نشره المعهد المصري للدراسات التابع لتنظيم الإخوان، تحت عنوان "من التوحيد والجهاد إلى أنصار بيت المقدس"، لافتاً إلى أنّ البيك كان أحد المقبوض عليهم على خلفية تفجيرات طابا وشرم الشيخ، عامي 2004/ 2005، التي نفّذتها جماعة "التوحيد والجهاد"؛ فقد كانت دعوته صاحبة التأثير الأكبر في ابن سيناء، خالد مساعدة، مؤسس تنظيم "التوحيد والجهاد"، وهو التنظيم نفسه الذي فرّ أعضاؤه من السجون، بعد أحداث يناير 2011، متوجهين إلى سيناء، ليعيدوا تأسيسه مرّة أخرى، مع آخريين من غزة الفلسطينية، على حدود سيناء، ينتمون للسلفية للجهادية، لكن هذه المرّة أصبح اسم التنظيم "أنصار بيت المقدس"، الذي بايع داعش فى سوريا والعراق عام 2014، "ولاية سيناء".

(5)

في التقسيم الإداري لقرى مصر؛ هناك كفور وعزب ونجوع، وهناك توابع أصغر تتبع القرى الأكبر، ومن توابع قرية كرداسة كانت قرية ناهيا، وأبو رواش، وكفر غطاطي، وهي القرى الأبرز والأكثر تأثراً بدعوة الإخوان، وأيضاً كانت تلك القرى حاضنة لجماعات سلفية أخرى، فخرج عبود وطارق الزمر القياديان في الجماعة الإسلامية من ناهيا، ومن أبو رواش انطلق الهجوم الأكثر دموية، الذي واجهته الشرطة المصرية بعد أحداث يونيو 2013، حين توجّه سلفيون مسلّحون إلى مقرّ قسم الشرطة في كرداسة، واشتبكوا معهم في معركة انتهت باستشهاد 12 ضابطاً ومجنداً، وكان أحد أبرز المتهمين في اقتحام مركز شرطة كرداسة، عضو تنظيم الإخوان، وعضو البرلمان عن التيار الديني، عبد السلام زكي بشندي، ابن زكي بشندي، أحد المتهمين في تنظيم 1965، وأحد أبرز مؤسسي دعوة الإخوان فى كرداسة.

 

وفي كتابه «القاموس الجغرافي للبلاد المصرية»، ذكر المؤلف محمد رمزي، أنه في مصر القديمة كانت هناك قرية اسمها «نِـهت»، كانت مكرّسة لعبادة الإلهة هاتور، إلهة السماء، والحب، والجمال، والأمومة، والسعادة، والموسيقى، والخصوبة، ويذكرها معجم البلدان باسم «نهيا»، أما الخطط التوفيقية فتشير إليها بـ«نهية».

وفي العصر الحديث أصبح اسم القرية، «ناهيا»، والتي شهدت في أكتوبر 1973 استشهاد أحد أبنائها، اللواء «أحمد عبود الزمر»، أحد أبطال معركة «رأس العش»، قائد الفرقة «23 مشاة ميكانيكي» في حرب أكتوبر عام 1973، وكانت المهمة المسندة إليه تصفية «ثغرة الدفرسوار».

غير أن القرية المصرية القديمة، التي أنجبت قائداً حاز وسام نجمة الشرف العسكرية، شهدت في 14 أغسطس 2013، مشاركة أبنائها في أكبر مذبحة شهدتها قوات الشرطة المصرية منذ سنوات.

وكان على رأس المطلوب القبض عليهم في تلك القضية، محمد نصر الدين الغزلاني، ابن قرية كرداسة، الهارب، والصادر ضده حكماً بالإعدام.

نصر الغزلاني، الذي عين نفسه أميراً على كرداسة لأيام قليلة، كان قد سبق وخرج من السجن قبل سنوات، ضمن حملات العفو التي صدرت بحق آلاف الجهاديين المقبوض عليهم قبل يناير 2011، وقد سبق اتهامه في قضية تنظيم «طلائع الفتح» عام 1993 والتي اعتقل على إثرها 1000 عضواً من جماعة الجهاد المصرية، والتي كان يرأسها في ذلك الوقت أيمن الظواهري. ورغم أن الغزلاني لفت الأنظار إليه، إلا أن هناك شخص آخر ساهم فى الأحداث رغم إعدامه في القاهرة عام 2001؛ «أحمد إبراهيم السيد النجار» ابن قرية «ناهيا»، مسئول لجنة التنظيم المدني في جماعة الجهاد المصرية عام 1994، المقبوض عليه في قضية «العائدين من ألبانيا» عام 1998.

(6)

 تاريخ ممتد من العنف، عاشته قرية تمتد جذورها إلى مصر القديمة، ويشتهر أبناءها حتى الأن بالصناعات التراثية، يأتيهم الناس من كل حدب وصوب لاقتناء منتجاتهم، غير أن جغرفيا المكان، الواقع على مشارف صحراء الجيزة، جعلها بيئة خصبة لانتشار أفكار الجماعات المتطرفة، التي لا تزال تنتظر العودة من جديد، ظنا منها أن الضغط على مصر خارجيا قد يؤتي ثماره!

أخبار الساعة

الاكثر قراءة