السبت 18 مايو 2024

«سيناء ..مكان ومكانة».. تفاعلات الجغرافيا والتاريخ

سيناء مهبط الديانات

تحقيقات3-5-2021 | 22:37

الفريق أسامة الجندى

تظل نظرية عبقرية المكان والزمان التى قدمها جمال حمدان فى موسوعته عن الدولة المصرية، صالحة للتطبيق على كل جزء من أراضيها، وهو ما ينطبق على شبه جزيرة سيناء الواقعة فى الشمال الشرقي من أرض مصر على شكل مثلث رأسه إلى الجنوب وقاعدته إلى الشمال، والبالغ مساحتها نحو 61 ألف كيلو متر مربع أي ما يعادل حوالي 6 % من جملة مساحة مصر، فقد أكسبتها الجغرافيا مكانة محورية جعلها نقطة التقاء فى تاريخ البشرية، حيث مثلت حلقة الوصل بين قارات العالم القديم، ومعبر انتقال بين حضاراته في وادي النيل وفي دلتا نهري دجلة والفرات وبلاد الشام.

وإذا كانت جغرافيتها قد أكسبتها تلك الأهمية الجيواستراتيجية، فإن التفاعلات على أرضها قد أكسبتها كذلك أهميتها التاريخية، كونها معبرا لجميع الديانات السماوية، فقد كرّمها الله بذكرها في القرآن الكريم فى قوله تعالى (والتين والزيتون وطور سينين) سورة التين آية(1، 2) وكرّمها سبحانه وتعالى بعبور أنبيائه لأراضيها، فعبرها الخليل إبراهيم عليه السلام، وعاش فيها موسى بن عمران عليه السلام وبها تلقى الشريعة من ربه، وعبرها السيد المسيح وأمه مريم عليهما السلام.

وغنى عن القول إن المكانة التى اكتسبتها شبه جزيرة سيناء ترجع إلى ما سجلته آثارها من أحداث وما سطرته صفحات التاريخ من كلمات، إذ يعود أول ذكر لسيناء في الآثار المكتوبة إلى عام 3000 قبل الميلاد عند بدء تكوين الأسرة المصرية الفرعونية الأولى على يد نعرمر مؤسس هذه الأسرة وموحد البلاد، حيث كانت سيناء مصدرا للنحاس والفيروز خاصة في منطقة وادي المغارة، فقد وجدت نقوش تحمل أسماء أهم ملوك الدولة المصرية القديمة، ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل اتجه المصرى القديم إلى منطقة سرابيط الخادم حيث شيد فيها معبداً للآلهة حتحور، يدلل على ذلك مئات النقوش التي حملت أسماء ملوكهم. وما يلفت الانتباه فى هذا الشأن أن قيمة سيناء خلال هذه الفترة التاريخية الممتدة فى عمر الدولتين القديمة (2780 ق.م - 2280 ق.م) والوسطى (2130 ق.م – 1600 ق.م)  تركزت فى البعد الاقتصادى، فكانت شبه جزيرة سيناء مصدرا للمعادن والثروات التى اعتمدت عليها فى تحقيق نهضتها وبناء حضارتها كما كانت معبرا للتجارة. إلا أنها منذ بدء الدولة الحديثة (1600 ق.م - 1000 ق.م) مع الأسرة الثامنة عشر ( تحديدا عام 1580 ق.م)

اكتسبت سيناء أهمية في اتجاه آخر، فأضحت إلى جانب أهميتها الاقتصادية، واحدة من أهم الطرق الحربية في العالم القديم (كانت طريقا حربيا كبيرا يصل بين مصر وفلسطين) وذلك بعد أن حررت مصر نفسها من الهكسوس وخرجت تؤمن حدودها.

ولعل مكانتها فى حماية الدين المسيحى من اضطهاد الرومان صفحة تاريخية أخرى تكتب بأحرف من ذهب، فقد كانت سيناء طريق رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، لحماية الدين الجديد وأهله، فكانت واحة فيران فى جنوب سيناء ملاذا آمنا لمعتنقى المسيحية، شيدوا بها العديد من الأديرة التى لم يبق منها إلا الدير القائم عند جبل موسى وهو دير سانت كاترين، ليصبح شاهدا على المكانة الدينية لسيناء، تلك المكانة التى ترسخت مع قدوم الفتح الإسلامى لمصر فى العصور الوسطى (640م)، حيث مثلت سيناء بوابة ذلك العبور، بل ظلت سيناء كذلك مرتكزا رئيسيا فى كافة المعارك التى خاضتها الدولة الإسلامية فى مواجهة الهجمات الصليبية والمغولية، فكان الانتصار المصرى عليهم فى معركتى حطين وعين جالوت على الترتيب عنوانا رئيسيا لحماية الحضارة الإسلامية، وكانت الحصون فى سيناء خط الدفاع الرئيس فى تحقيق هذا الانتصار.

ولم تتوقف الأهمية التاريخية لشبه جزيرة سيناء عند هذا الحد، بل كانت سيناء أيضا ساحة للمعارك فى العصر العثمانى وأثناء الحملة الفرنسية على مصر، فكُتب التاريخ تسطر صفحات من هذه الانتصارات التى كللت مع الاستقلال المصرى عقب ثورته المجيدة فى يوليو 1952.

ولكن يأبى المستعمر دوما أن يترك سيناء لمكانتها ودورها فى صناعة أحداث التاريخ وتوجيه مساراته، فكان العدوان الثلاثى على مصر 1956 على مدن القناة طمعا فى كسب نفوذ على أرض الفيروز، ولكن الإرادة الوطنية الصامدة نجحت فى صد هذا العدوان الغاشم الذى لم يردعه ذلك من معاودة عدوانه كما حدث فى 5 يونيو 1967 ليحقق سيطرة كاملة على سيناء ضمن معركة لم تخوضها قواتنا المسلحة التى انتفضت لتستعيد مكانتها وكرامة شعبها، فخلال ست سنوات نجح الجيش المصرى بدعم ومساندة شعبية قوية فى تحقيق واحد من أهم الانتصارات فى العالم فى حرب لم يكن يتوقعها كبار العسكريين والخبراء الاستراتيجيين، لتستعيد مصر أرضها فى معركة بدأت عسكرية وانتهت سياسية - قانونية بعودة طابا فى الخامس والعشرين من أبريل عام 1982، لتبسط الدولة المصرية كامل سيادتها على أراضيها.

والحقيقة أن المكانة التى تحظى بها أرض الفيروز جعلها – كما سبق الإشارة - دوما مطمعا للجميع، يدلل على ذلك أيضا ما جرى خلال الأحداث التى عاشتها مصر عام 2011، حيث كان هناك مسعى متواصل من جانب الجماعات الإرهابية المدعومة من أجهزة الاستخبارات العالمية لبسط هيمنتها عليها، فخاضت الدولة المصرية بجميع أجهزتها حربا ضروسا ضد كل تلك التنظيمات. صحيح أن الحرب لا تزال مستمرة فى مواجهتها إلا أن ما حققته الدولة من نجاحات على مدار الأعوام الستة الماضية عكَس صلابة الإرادة الوطنية وقوة اللحمة المجتمعية فى مواجهة جميع الأطماع الرامية للهيمنة على البقعة المباركة فى الأرض المصرية.

فى ضوء كل ما سبق، يمكن القول إن سيناء بموقعها الجغرافى ومكانتها التاريخية هى بوابة الأمن القومى المصري فى مفهومه الشامل، بما يستوجب اليوم ونحن نحتفل بالذكرى التاسعة والثلاثين لتحريرها واستعادتها أن نضع فى الحسبان مجموعة من الاعتبارات المهمة، أبرزها:

أن مصر تخوض معركة وجود فى مواجهة إرهاب أسود يحاول أن يسيطر على سيناء مدعوما فى تحركاته بأجهزة استخبارات عالمية تستهدف الدولة المصرية وسيادتها واستقلاليتها. 

أن أهالى سيناء ومواطنيها هم حائط الصد الأول فى مواجهة جميع المخططات الإرهابية والتهديدات الأمنية، فصفحات التاريخ مليئة بالشهداء الأبطال من أبناء قبائل سيناء الذين قدموا حياتهم فداء لاستعادتها إلى حضن الوطن.

أن تنمية سيناء وتعميرها هو خط الدفاع الأول عن حمايتها، مع التأكيد على أن التنمية لا تعنى بناء قرى سياحية أو منشآت سكنية أو تقديم خدمات معيشية رغم أهمية كل ذلك، إلا أن التنمية المقصودة هى تنمية شاملة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وإعلاميا وتربويا، فالمواطن فى سيناء بأسرها (شمالا وجنوبا ووسطا) هو الغاية الرئيسية لعملية التنمية الشاملة وهذا هو ديدان الدولة المصرية فى استراتيجياتها وخططها للنهوض بسيناء.

ملخص القول إن الاحتفال بذكرى تحرير سيناء يمثل درسا مستمرا لجميع الأجيال لقراءة التاريخ وأحداثه، وفهم الحاضر وتحدياته، من أجل بناء المستقبل ومتطلباته. فالتاريخ الذى شهدته شبه جزيرة سيناء منذ الحضارات القديمة وحتى اليوم يقدم فهما عميقا للمهام المطلوبة من أبنائنا وأحفادنا فى ضرورة استكمال المسيرة فى الذود عن تراب الوطن وقدسيته، وتنمية قدراته، والنهوض بأوضاعه، وتحسين ظروف حياة مواطنيه فى كافة ربوعه، تلك هى المسئولية الأولى التى تتحملها الدولة المصرية شريطة أن تكون هناك مساندة ودعم مجتمعى يعزز من جهود قيادته السياسية بما تحمله من رؤية تستهدف بناء الوطن للجميع دون تمييز أو تفرقة على النحو الذى ترتسم ملامحه على أرض الفيروز التى كانت ملتقى أصحاب الأديان الثلاثة، فآثارها وأحداثها تؤكد على أن مصر برحابتها ومكانتها كانت دائما ملاذا للجميع وبيتا آمنا لكل المضطهدين، تلك هى الحضارة المصرية التى تصهر الجميع فى بوتقة الوطن.