يزخر تاريخنا الثقافي والفني بشخصيات كثيرة يمثلون علامات مضيئة، ونجومًا تتلألأ في حياتنا، أضافت الكثير بالتزامها وإخلاصها وموهبتها وإبداعها في مسيرة المسرح المصري والعربي أيضًا، وأسعدت الجمهور بكل ما قدمت.

وتواصل بوابة"دار الهلال"في شهر"رمضان الكريم" تسليط الضوء على نجم من هؤلاء النجوم وخطوات من رحلته وحياته بالمسرح، وترك هؤلاء النجوم إرثًا فنيًا في الحركة المسرحية المصرية وحفروا أسماءهم في عالم الإبداع بما قدموا بالكثير من الأدوار والشخصيات الدرامية بمسرحنا المصري.

واللقاء اليوم مع الفنانة القديرة الرائدة المسرحية "دولت أبيض"

تعد الفنانة القديرة "دولت أبيض"ممثلة من الرعيل الأول من الفنانات المصريات في مجال التمثيل بالدراما المصرية وخصوصًا برحلة المسرح المصري .

ولدت"دولت أبيض"بمحافظة أسيوط في 29 يناير عام 1896، وتنتمي أمها إلى أصول روسية ووالدها حبيب بطرس قصبجي كان يعمل مترجمًا لوزارة الحربية.

مسيرة  طويلة مع المسرح

درست"دولت أبيض"في مدرسة الراهبات بمدينة الخرطوم بالسودان حيث كان يعمل والدها هناك، واكتشفها الفنان"عزيز عيد"عام 1917 عندما التقى بها في إحدى الحفلات الأسرية فاستجابت لدعوته لها للتمثيل بفرقته، وأدت أول دور لها بنفس العام وهو شخصية "الكونتيسة"بمسرحية"خللى بالك من إميلي"لجورج فيدو، ثم أدت دور العروسة بمسرحية"ليلة الدخلة" ،ونجحت في أول تجاربها على المسرح. ثم انتقلت إلى فرقة"نجيب الريحاني"وقضت أيام فقط مع الفرقة حيث اكتشفت سريعًا أنها لا تصلح للمشاركة بالمسرحيات الكوميدية، فتركت الفرقة وانضمت لفرقة"جورج أبيض"بعد نصيحة الفنان نجيب الريحاني لها. وقد شعر الفنان"جورج أبيض"بجديتها فاهتم بها، وكان يخصها بإرشادته ونصائحه، ومن ثم أسند مهمة تدريبها إلى نجمة الفرقة "مريم سماط" وكانت أول أدوارها"مع الفرقة شخصية الملكة جوكاستا بمسرحية "أوديب الملك" لوليم شكسبير 1918، وتفوقت في أداء الشخصية فتخصصت منذ ذلك الوقت في تجسيد أدوار الملكات والشخصيات النبيلة، بالإضافة إلى تميزها في تجسيد أدوار المرأة العاشقة.

سافرت"دولت أبيض"في 1920 مع فرقة أمين عطا الله إلى سوريا بعد ما توقفت معظم الفرق المسرحية بعد قيام ثورة 1919، ثم التحقت بفرقة منيرة المهدية، وفي عام 1921 مثلت في أوبريت"شهرزاد" لفرقة سيد درويش، ثم انتقلت إلى فرقة الريحاني مرة أخرى ومثلت بمسرحية"ريا وسكينة ، وعادت بعد ذلك للعمل مع فرقة"جورج أبيض"وسافرت معها في رحلتها إلى الشام في 1923، وهناك تزوجت من الفنان جورج أبيض" وحملت اسمه منذ ذلك الحين. ومنذ زواجهما أصبحت تلازم زوجها وتمثل أمامه أدوار البطولة النسائية بجميع مسرحيات فرقته.

انضمت"دولت أبيض"مع زوجها إلى فرقة"رمسيس"ليوسف وهبى في نهاية 1923، واشتركا في بطولة عدة مسرحيات ، وفي آواخر عام 1927 انضمت مرة أخرى مع زوجها إلى فرقة"رمسيس" ولكنهما انفصلا عن الفرقة بعد فترة قصيرة، وسافرت مع فرقة"جورج أبيض"في رحلتها إلى أمريكا اللاتينية عام 1930.
ساهمت"دولت أبيض "في 1934 في تأسيس فرقة "اتحاد الممثلين"، وذلك عندما تقدمت بمذكرة مع مجموعة من الفنانين إلى وزير المعارف يطالبون فيها بضرورة دعم ومساندة الدولة للفرق المسرحية لمواجهة الظروف والأوضاع السيئة التي تعمل في ظلها الفرق، والتي أدت إلى توقف معظمها عن العمل وانتشار البطالة بين الفنانين كنتيجة لآثار الأزمة الإقتصادية التي اشتدت مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي، ويقترحون تكوين فرقة حكومية من أعضاء الفرق المنحلة، واستجابت الدولة وقامت بدعم فكرة إنشاء"إتحاد الممثلين"الذي انضم إليه عدد كبير من الفنانين، ولكنه لم يستمر أكثر من ستة شهور لكثرة الخلافات وضعف الإدارة وضعف المستوى الفني للعروض.

وانضمت"دولت أبيض"في 1935 إلى الفرقة القومية المصرية وقدمت أدوار البطولة في في العديد من المسرحيات ، وعند إعادة تشكيل الفرقة باسم"الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى"في 1942 كانت أيضًا من نجمات الفرقة، ولكنها قدمت استقالتها في 1944، لتتفرغ لنشاطها السينمائي وتؤسس فرقتها الخاصة بعدما أصبحت نجمة مشهورة، غير أنها لم توفق في فرقتها الخاصة التي اعتمدت فيها على إعادة تقدم مسرحيات فرقة "جورج أبيض"، ولذا فقد عادت للتعاون مع الفرقة "المصرية للتمثيل والموسيقى"(المسرح لقومي) لفترات قصيرة عام 1948

وتميزت "دولت أبيض " عن غيرها من فنانات جيلها بتجربتها في  تأسيس فرقتها المسرحية الخاصة، وقيامها ببناء مسرح باسمها في 1944 في"حدائق القبة"، ولكنها اضطرت بعد عامين لتحويلها إلى دار عرض سينمائي باسم سينما "هونولولو"، التي أصبحت من أشهر دور العرض في مصر حينذاك واستمرت لسنوات تقدم مجموعة من أفضل وأشهر أفلام الأربعينيات وبداية الخمسينيات، غير أن السينما احترقت بالكامل بحريق القاهرة في يناير 1952، فأحدث هذا الحريق خسائر مادية كبيرة لها وتحملت جميع الخسائر بمفردها.

اتسمت رائدة المسرح والسينما" "دولت أبيض" بملامح غربية برغم أصلها العربي، وعرفت بأكثر من لقب أطلقته عليها الصحافة ومن أشهرها (كونتيسة المسرح، السيدة الأرستقراطية، بنت الذوات، صاحبة العصمة، خاصة بعدما تميزت في أداء أدوار الأم الأرستقراطية بصفة عامة وأصبحت واحدة من أشهر الأمهات في السينما المصرية، مع العديد من الفنانات .

 وعرفت وتميزت الفنانة " دولت أبيض" بمهاراتها في تجسيد أدوار الأم برصانة ورسوخ واستطاعت أن تبرز مشاعر الأمومة الصادقة، بصوتها الرصين ولفتاتها ونظراتها المعبرة ذات التأثير القوي، وأن توظف إمكانياتها الصوتية القوية في الأداء، خاصة بعدما أدركت مبكرا الفرق بين التمثيل على خشبة المسرح والتمثيل أمام كاميرات السينما، و نذكر لها تميزها في تجسيد شخصية "أم زينب" في الفيلم الصامت "زينب"من إخراج " محمد كريم"1930وتفوقت في فترة متقدمة من العمر في تجسيد شخصية الأم الأرستقراطية المتسلطة ذات الصوت الحاد الحازم كما في فيلم"المراهقات"، أو الجدة الطيبة كما في فيلم "إمبراطورية ميم"

وظل المسرح هو الفن الذي أحبته "دولت أبيض" أكثر من غيره من الفنون الأخرى، فكان بداية رحلتها الفنية ومشاركتها بعالم التمثيل ، وأثبتت وأكدت موهبتها من خلال تجاربها  الكثيرة معه  و تعلمت فن التمثيل من قبل نخبة من الفنانين و الأساتذة الرواد  المسرحيين كان في مقدمتهم "عزيز عيد، جورج أبيض، يوسف وهبي، زكي طليمات".
وكانت "دولت أبيض" تمتع بصوت مسرحي رخيم ومخارج ألفاظ سليمة، وتجيد الأداء باللغة العربية الفصحى إضافة لتميزها في أداء مختلف الأدوار فقد نجحت من خلال المسرح في تقديم مجموعة كبيرة من الشخصيات الدرامية المتميزة

وتعد الفنانة  القديرة "دولت أبيض" من أولى المؤلفات بالمسرح العربي، حيث قامت بتأليف مسرحية "دولت"عام 1922.

وتتمثل أعمال "دولت أبيض "المسرحية فيما يلي :

شاركت "دولت أبيض "مع فرقة"عزيز عيد في مسرحيتي (خللى بالك من إميلي، ليلة الدخلة (1917وشاركت مع فرقة"الريحاني" في مسرحية" ريا وسكينة 1921.

ومع فرقة "جورج أبيض"شاركت في مسرحيات كثيرة هي : ( أوديب الملك، ومسرحية "هاملت "في دور أوفيليا (1918)،  وبمسرحية "ماكبث  قدمت  دور ليدي مكبث (1919)، دولت (1922)، البخيل، المحامية، المرأة المجهولة، اليتيمتين، بشير أغا، نكبة البرامكة (1923)، المسحور، إيفان الجبار قيصر روسيا، باسم القانون، حور محب، زواج فيجارو، سفينة نوح، شرف الأسرة، عاصفة في البيت (1924)، الإسكندر الأكبر، المتسول، رسول الوطنية (1925)، المأمون، أسرار القصور، دون جوان (1926)،

وفي عام(1929 ) شاركت "دولت أبيض "في مسرحيات ( الإرليزية الحسناء، البرنس جان، الحب والصداقة، الرجل الذي قتل، الزوجة الفاضلة، الشعب والقيصر، الكونت هيرمان، المرحوم توبينال، الهادي، اليقظة، امرؤ القيس، أمنحتب الرابع، أنا وهو وأندريه، اليهودي التائه ،كما قدمت "دولت أبيض " أيضًا مع فرقة "جورج أبيض" عام 1931 مسرحيات (ترويض النمرة، جرائم الآباء، ذر الرماد في العيون، زواج كاميلا، سعاد، سيمون، شرلكان وفرانسوا الأول، طريد الأسرة، ملك بلا مملكة، ميشيل إستروجوف، نابيلونيت).

ومع فرقة "رمسيس" شاركت "دولت أبيض " في مسرحيات ( سيرانو دي برجراك (1923)، الأب ليبونار، الجريمة والعقاب، الشعلة، غادة الكاميليا، في سبيل التاج، كليوباترا في دور " كليوباترا، لويس الحادي عشر في دور " ماري ، وفي مسرحية " مدام سان جين ونابليون (1924)، الوطن، عطيل في دور" ديدمونة" (1925)، البيت المحاصر، الشرك، المرأة المجهولة، الولدان الشريدان، جاك الصغير (1927)، الخائن، العرش، القضية المشهورة، بائعة الزهور، عنتر، تاجر البندقية، يوليوس قيصر (1928).

ومع فرقة "إتحاد الممثلين" شاركت في مسرحيات ( الجنرال ريشيليو، الفاكهة المحرمة، جرانجوار، في سبيل الوطن، لوسيد، هرناني) بعام (1934) ،ومع فرقة"أولاد عكاشة " قدمت الثائرة (1936) ومع فرقة "أنصار التمثيل والسينما" شاركت في  أوديب (1949)
ومع فرقة "المسرح القومي" شاركت "دولت أبيض " في مسرحيات  مجرم، الملك لير  في دور كورديليا (1935)، الشعلة المقدسة، أندروماك، سافو (1936)، الحب والدسيسة، الزوجة الثانية في دور بديعة ، اللهب، المعجزة، دليلة (1937)، شمشون ودليلة في دور دليلة (1938)، الأمل، تلميذ الشيطان، عطيل (1939)، أوديب الملك (1940)، الثائرة الصغيرة (1942)، غادة الكامليا (1943)، السر الهائل، نبي الوطنية (1952)، مضحك الملك )1953).

وشاركت الفنانة دولت أبيض في إثراء مسيرة الفن المصري ببطولة ثلاثين فيلما خلال اثنين وأربعين عاما، وكانت أولى مشاركاتها بفيلم "زينب" (عام 1930) للمخرج محمد كريم  وكان آخر أفلامها فيلم "إمبراطورية ميم" (عام 1972).

نالت  الفنانة القديرة "دولت أبيض"  العديد من مظاهر التكريم وحصدت بعض الجوائز ومن بينها :

• الجائزة الثانية للتمثيل الدرامي عام 1925
• الجائزة الأولى لتمثيل الكوميديا عام 1926
• وسام الدولة للفنون في عيد العلم في عام 1960

و اشتركت "دولت أبيض " بأداء أدوار رئيسة بفيلمين فى قائمة أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية، وذلك طبقا لاستفتاء النقاد عام 1996 وهما فيلمي: "المراهقات" و"إمبراطورية ميم"

رحلت الفنانة القديرة " دولت أبيض " عن عالمنا  في 4 يناير عام 1978 لكنها ستبقى بذاكرة ووجدان الجمهور ، وستظل أيقونة  فنية خالدة  ورمزا من رموز الثقافة  والفن  بكل ماقدمته  بجهد كبير وصدق وإخلاص  لتسعد الجمهور ، وهي  الرائدة الفنية صاحبة الرحلة المتيزة في تاريخ الفن المصري  بصفة عامة والمسرح المصري والعربي بصفة خاصة .