الخميس 16 مايو 2024

نساء في الإسلام (23ــ 30 ).. «الخنساء» الشاعرة أم الشهداء

الخنساء

ثقافة5-5-2021 | 22:24

همت مصطفى

يشهد تاريخ الإسلام شخصيات عاشت وخلدها إيمانها ومواقفها القوية دفاعًا عن ديننا الحنيف ينشدون ثواب الآخرة والهدى للبشرية كلها فتركت هذه الشخصيات أثرًا كبيرًا محفوظًا في ذاكرتنا ووجداننا وهدى وبوصلة لنا في الطريق، ومع بوابة "دار الهلال" في أيام شهر رمضان الكريم، ننتقل من عالمنا إلى صفحات من التاريخ لنرصد بعض الخطوات والمحطات والمواقف في رحلة العديد من هذه الشخصيات، واخترنا بهذا العام أن تتمثل في رحلة مع النساء الذي أسهموا في دعم الإسلام وانتشاره بعنوان "نساء في الإسلام".

واللقاء اليوم مع شاعرة الرثاء العربية وأم الشهداء "الخنساء"

ولدت تماضر بنت عمرو بن الحارث السلمية بن الشريد المعروفة بالخنساء في جزيرة العرب عام 575م، وسبب تلقيبها بالخنساء لقصر أنفها وارتفاع أرنبتيه، وأسلمت الخنساء مع قبيلتها، وذهبت معهم إلى المدينة المنورة.

تعد" الخنساء" من أشهر شعراء الجاهلية المخضرمين، وطغى على شعرها الحزن والأسى والفخر والمدح، وهي من أشهر شعراء الرثاء حيث غلب على شعرها البكاء، والتفجّع، والمدح، والتكرار، والنظم على وتيرة من الحزن، وذرف الدموع، وقال عنها نابغة الذبياني: "الخنساء أشعر الجن والإنس"، وقيل أن رسول الله "محمد " صلى الله عليه وسلم كان يعجب بشعرها وعرف عنها البلاغة وحسن المنطق والبيان.

عرفت "الخنساء" بحرية الرأي وقوة الشخصية ونشأت في بيت عـز وجاه مع والدها وأخويها معاوية وصخر، وتوضح ذلك  القصائد التي كانت تتفاخر بها بكرمهما وجودهما، وأيضا أثبتت قوة شخصيتها برفضها الزواج من "دريد بن الصمة" أحد فرسان بني جشم؛ لأنها آثرت الزواج من أحد بني قومها، فتزوجت من ابن عمها رواحة بن عبد العزيز السلمي، إلا أنها لم تدم طويلا معه؛ لأنه كان يقامر ولا يكترث بماله، لكنها أنجبت منه ولدًا، ثم تزوجت بعده من ابن عمها مرداس بن أبي عامر السلمي، وأنجبت منه أربعة أولاد.

واشتهرت "الخنساء" في الجاهلية بشعرها وخاصة رثاؤها لأخويها صخر ومعاوية والذين ما فتأت تبكيهما حتى خلافة عمر بن الخطاب، وعرف عنها في ذلك نبلها ووفائها.

ويغلب عند علماء الشعر على أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، وكان بشار يقول إنه لم تكن امرأة تقول الشعر إلا يظهر فيه ضعف، فقيل له: وهل الخنساء كذلك، فقال: تلك التي غلبت الرجال.

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم، وتعد الخنساء من المخضرمين؛ لأنها عاشت في عصرين عصر الجاهلية وعصر الإسلام، وبعد ظهور الإسلام أسلمت وحسن إسلامها.

ومن سمات "الخنساء"، الشجاعة والتضحية ويتضح ذلك في موقفها يوم "القادسية" واستشهاد أولادها، حيث عاشت "الخنساء " بحدثين متشابهتين غير أن سلوكها بكل حدث كان مختلفًا مع سابقتها أشد الاختلاف، متنافرًا أكبر التنافر، أولاهما في الجاهلية، وثانيهما في الإسلام  ففي الحدث الجلل الأول كانت في الجاهلية يوم سمعت نبأ مقتل أخيها "صخر"، فوقع الخبر على قلبها كالصاعقة في الهشيم، فلبت النار به، وتوقدت جمرات قلبها حزنًا عليه، ونطق لسانها بمرثيات له بلغت عشرات القصائد، ما روي عن عمر أنه شاهدها تطوف حول البيت وهي محلوقة الرأس، تلطم خديه، وعلقت نعل "صخر" في خمارها حزنًا على أخويها "صخر ومعاوية".

والحدث الثاني، في يوم نادى المنادي على المسلمين للدفاع عن الدين والعقيدة ونشر الإسلام، فجمعت أولادها الأربعة وحثتهم على القتال والجهاد في سبيل الله، ويوم بلغها نبأ استشهادهم، فما نطق لسانها برثائهم وهم فلذات أكبادها، ولا لطمت الخدود ولا شقت الجيوب، وإنما قالت برباطة جأش وعزيمة وثقة: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وإني أسأل الله أن يجمعني معهم في مستقره رحمته".

.

ومن كلمات الخنساء المهمة في بث الدعوة للجهاد ونشر الإسلام حيث  قالت لأولادها قبيل معركة القادسية: "يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارًا على أوراقه، فتيمموا وطيسه، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة".

فلما وصل إليها نبأ استشهادهم جميعًا قالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقره رحمته"، وانتقلت الخنساء بعد الإسلام من اليأس والقنوط إلى التفاؤل والأمل، وانتقلت من حال القلق والاضطراب إلى حال الطمأنينة والاستقرار، وانتقلت من حالة الشرود والضياع إلى حالة الوضوح في الأهداف، وتوجيه الجهود إلى مرضاة رب العالمين.

عاشت الشاعرة "الخنساء" في الإسلام حتّى أول خلافة  الصحابي الجليل "عثمان بن عفان"، وتوفّيت بالبادية في سنة 24هـ  مورّثة ابنيها عباس بن مرداس وعمرة شعرها، مختصّة ابنتها عمرة بالرثاء والبكاء، فرَثت أخويها يزيد بن مرداس الذي قتله هارون ابن النعمان بن الأَسلت، وعباسا الشاعر الذي مات بالشام، بمراث مشهودة مشهورة، ما أَشبهها بحديث أمها في صخر ومعاوية.