أحسب أن العرب على علاقة قديمة وآثمة بعلم التهويل، فرغم أن أَهْلُونَا بالشام يواخون بين الزائد والناقص، ورغم أن أمثالنا الشعبية كثيرًا ما حذرت من المبالغات، لأن ما يزيد عن حده ينقلب لضده، ورغم وصايا الحكماء بالاعتدال كونه لجاماً للإفراط، ورغم إيمان الإنجليز بمقولة براونينغ: "Less is more" إلا أن أمثلة المبالغات كالذنوب لا حصر لها:
- فالمبتدؤون في عالم الطبخ يعجزون عن ضبط الطعم لإفراطهم في التوابل وإسرافهم في التسوية من باب "إكرام الطبخة" التي تفسدها عقوبة النار والإفراط في البهار، في حين يُدرِك الطباخ المُحَنّك أنّ الاعتدال هو سِر الطَعْم الزاكي.
أما الطاهي الغَرّ، فتعوزه الجرأة لانتشال الكوسة من الجحيم بعد أقل من أربع، ثم مصالحتها بعناق مع مكعب زبد ثم نثر قُبلة حَييّة من الملح.
- قلة من النساء يفطُنَّ لبشاعة المُبالغة في التَبَرُج. فتعجَز السيدة عن الخروج من دَارها إلا وهي تختلج مُحَملة بل مغطاه بكامل إرثها من المجوهرات، ويكأنها قارون خرج على قومه يوم الزينة، وهيهات أن ينتبهن لكون الإقلال من الحُلى يُضاعِف الحَلا، فيما تطمسه البهرجة. ويبقى المأزق في التشدق بالبساطة مع العجز عن التطبيق.
فثمة تعسر في الانتباه لجمالية إزاحة القلادة مع ثوب ملون، لترك مساحة لتَلألُؤ الجيد.
- المُغَالاة في اتباع حميات غذائية تتُلف جهاز الأيض، فتُثمر نتائج عكسية كرَدّة فِعْل للحِرمَان.
-الإفراط في المُدَاهَنة يجعل المَرء ليناً عُرضة للعَصر، فيما المبالغة في التيبس تُعَرِضُه للكَسر.
- ندر من نَجَحَ في تَطبيق الحديث الشريف: "إن هذا الدين لمتين، فتوغلوا فيه برفق"، فلطالما سبّب التوغل العنيف نفورًا وعدم استمرارية نتيجة وهن الهِمَم في مُمَارسة عبادات مغالى فيها، لم يفرضها الله على الإنسان."
- ظاهرة "الزووم" في التصوير تُبرهن على أن الاقتراب المبالغ فيه يبرز عيوب الصورة، بينما الشطط في الابتعاد تُبهت الرؤية.
- دعا المولى للوسطية :"وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا".
- جرّب التهويل في الثَنَاء على شخص، مدينة أو حتى مطعم أمام الناس، وثق أن إمعانك في المديح سيُفضي لاستهانة السامع بفضائل الموصوف.
فكثيرون ممن سمعوا عن روعة "فرنسا" أحبطوا لدى زيارتهم الأولى لها، فالوصف كان فائقاً، ما رفع سقف توقعاتهم، فجاء واقع "براغ" أفضل من مأمول "باريس".
- اعترف عادل إمام أن "الكوميديان" قد يُمعن ويبالغ في أداء دور المُضْحِك المِمراح لمضاعفة الإضحاك، فيوشك في الوقوع في شرك ما اسماه "بشيطان الضحك" الذي يوسوس للفنان بافتعال أداء المزيد من الحركات الهزلية والكلمات الخارجة للمزيد من الضحك!
- الوسطية بين "زد رغباً تزدد حباً " وبين "البعيد عن العين، بعيد عن القلب" تبرز قِلة المتمرسين في تصويب زيارتهم بتوقيت يناسب ظروف الطرفين لتجنب هرب صديقك من العلاقة كبغيٍّ فارة من المُدَاهمة، ما يترك العلاقات خربة كبراري قاحلة.
- أيضاً الإفراط في الاهتمام بالآخرين يُسَرب شعورًا بالحذر من نوايا المٌهتم، ويٌشَبه الكَاتِب "خوسيه رولدان برييتو" الإشادة بشَخص والثناء عليه بتناول السكاكر، فحين تُقدم لإنسان قطعة صغيرة من الحلوى فإنك تمنحه جرعة من النشاط، بينما التهام الكثير منها يُلحق ضَررًا وتُخمَة بصحة العلاقات الإنسانية.
بالمقابل، فإن إهمال حبيب يُوَلد شعوراً بالازدراء.. وإن كان إضافة القليل من المِلح يضبط الطعم، فإن الهجاء أو الإسراف في المُمَالحة يُودي بالعلاقة.
والمراد هو تَحَرى الاعتدال سَاعة كيل المديح لأحدهم.
فمثلاُ، حين كان العقاد عضواً في لجنة الشِعر في المجلس الأعلى للآداب، وقد نشبت معركة بينه وبين شباب الشعراء في ذلك الوقت بعيد اطلاعه على قصائد التفعيلة، إذ رفضها وأحالها إلى لجنة النثر، ثم صعّد العداء برفضه إلقاء الشعراء الجدد لقصائدهم ومنهم أحمد عبد المعطي حجازي بمهرجان الشعر العربي في دمشق بدورته الـ49، بل هدد يوسف السباعي بالاستقالة من المجلس لو صَعَد حجازي للمنصة وألقى شعره، فاضطر شعراء الحداثة للعودة لمصر بخفي حنين.
لاحقاً، نشر حجازي بالأهرام قصيدة عمودية بالغت في هجاء العقاد، جاء فيها:
«من أي بحر عصيّ الريح تطلبه .. إن كنت تبكي عليه نحن نكتبه
يا من يُحَدِث في كل الأمور ولا .. يكاد يُحسن أمراً أو يقاربه
أقول فيك هجائي وهو أوله .. وأنت آخر مهجو وأنسبه
تعيش في عصرنا ضيفاً وتشتمنا ..أنا بإيقاعنا نشدو ونطربه
وتَدّعي الرأي فيما أنت مُتهم .. فيه وتسألنا عما تخربه
وإنه الحمق لا رأي ولا خلق .. يعطيك رب الورى رأساً فتركبه
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن .. مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن»
وقد تعمد حجازي كتابة النص وفقًأ للشكل التقليدي ليبرهن للعقاد أنه وأبناء جيله يقرضون الشعر العمودي بتمكن، لكنهم كشباب يمتلكون "الريدنجوت"، لكن يفضلون "الجينز".
العجيب أن حجازي حين ناهز التسعين من عمره، انتقد الشعر الحر وشعراء الحداثة، واعترف بندمه لمغالاته في خصومة وهجاء العقاد، فجاء اعترافه متأخرًا كنبتة ندم بالقرب من مغاور القبور.
- الحديث الشريف معناه أن "أكثر ما يثقل الميزان -بعد الإيمان بالله - جرعة غيظ تُبتلع في سبيل الله رغم القُدرة على إنفاذها".
فرغم أن اللُطف ينهض كمحمدة، إلا أن بعض الدراسات النفسية أفادت أن "متلازمة الاحتراق النفسي" تُصيب من يتطلب نشاطهم المهني أو الأسري التزامات بالغة الإرهاق في التعامل، كالأطباء النفسيين، المعلمين، ربات البيوت أو الشخصيات التي تستسيغ لعب دور صديق البطل.
وقد صُنِّف المرض على أنه متلازمة خاصة بالمهن "القائمة على تحمل الآخرين".
ويُعرف "الاحتراق النفسي" بالموت الناتج عن الأعباء المبالغ فيها.
فوفقاً لعالم النفس فرودنبرجر:"البشر يقعون ضحايا للحرائق تمامًا كالمباني تحت وطأة الانصياع للضغوطات الناتجة عن الاجتهاد والإفراط في مساعدة وتحمُّل واستيعاب الآخرين على حساب أعصابهم وطاقاتهم، فيصابون باستهلاك مواردهم الداخلية وانهيار طاقاتهم المبددة في محاولات ابتلاع جرعات غيظهم أو ادعاء تقبل الإهانات التي اقترفت في حقهم، فيحدث الاحتراق الداخلي، نتيجة الإمعان في الضغط على الذات، حتى وإن بدا الغلاف الخارجي سليمَا".
فالتعامل دون مراعاة المسافات الآمنة يُعرضك للتهلُكة لاسيما من المحنكين في الإيذاء والإشعار بالتقصير وتمثيل دور الضحية كما والـEnergy vampires
ما سبق يحيلني لإنسانة تعرفت عليها وكانت جدًا ودودة، ومن المبادرات لا المكافئات، وهي صفة نادرة، لكن كان يزعجني منها فضولها العنيف بدعوى الاهتمام، عدا عدم تفهمها لظروف قد تخفى عنها. فكان يحدث أن نخرج لتناول الفطور ثم أعود، فأنام مرهقة ببيتي لأصحوا على زهاء عشرين مكالمة فائتة منها.
أهاتفها، فتجيب كملتاثة تجهش بنحيب متقطع، وتنهال عليّ بعشرات الأسئلة من مرادفات "أين كنت"، ثم تشرع بثرثرة عتاب كالأرامل لعدم ردي في التو.
أخبرها بما حدث واضطر لتبرير قيلولتي بإلقاء اللوم على غلظة شمس الخليج، فتتنفس الصعداء وتخطرني أنها كانت تربض على عتبات داري وقد أوشكت على مهاتفة الشرطة لإنقاذي!!!!
من ماذا؟ لا أعلم!
رجوتها مرارًأ، بل عقدنا اتفاقًا مفاده أنه إذا قام أحدنا بمهاتفة الآخر ولم يرد، فهذا لا معنى له سوى أن الآخر مشغول أو أن الوقت لا يلائمه أو أن حالته المزاجية الدامسة تمنعه من التواصل، كما ناشدتها عدم الاستفسار عن السبب الذي يحول دون الرد، حتى لا نضطر لتقديم تبريرات وشروحات تُفشي أسرار البيوت. فلا ضرورة بكل اتصال الاستهلال بديباجة عويل خانق: أين كنت ؟ اتصلت فلم تردي؟
وافقت على الاتفاق، ومع هذا استمر سلوكها كصهيل فرس متمرد يعدو على الحواجز حول المضمار، فواظبت على عادة استفتاح المكالمات بتدفق الأسئلة كأخبار وفيات الوباء الحزينة، سؤال إثر استجواب: أين كنت" وأخواتها من العبارات المماثلة؟ قلقت عليك جداً.. لما الغيبة؟!
استميت في النضال حرصاً على الاتفاق، فتتعلل بالاشتياق.. ثم تفصح عن عدم اقتناعها، فأسألها بثغر طافح باليأس وعيون جاحظة بالسأم: أتحبين الحليب؟ : أخبرتك أني اشعر بالغثيان بمجرد رؤيته منذ صغري يا داليا : إذن كيف ستشعرين إزاء إصراري تقديمه إليك كضيافة مع درايتك بإحاطتي بكراهيتك له.. وإن تعللت بفائدته؟
الشاهد، دأبت مذ 2004 وحتى 2013 على نهجها، تتصل لتلوك الأخبار كعلكة وتداهم بيتي دون موعد مسبق وكأنه حانة يرتادها الغرباء أو كشك اعتراف داخل كنيسة أو صفصافة خضراء يستظل بها عابر السبيل.
تحاملت على نفسي لتسع، لكن قبل انتهاء العقد، تيقنت أن لا سبيل لأن يورق الزيتون .. شعرت بعقلي مُتْرَع بضباب وأعصابي أسلاك كهربائية مكشوفة.. وحين وجدتني كالأمم المقهورة .. أنهيت العلاقة.
راقبت نفسي وبحثت عن كلمة تترجم ما اعتراني حينئذ، إذ لم اشعر بسعادة صيف أو بغيوم حزينة.. وحدها المفردة الإنجليزية عبرت عن
Relief
ثقل علاقة آسنة قد انزاااااااح بلا رجعة.
- بحسب المؤرخ الإنجليزي ديورانت: "فالمتطرفون يتقاذفون المُعتدل كالكرة، فالجبان يعتبر الشجاعة تهوراً، فيما ينظر المتهور للشجاعة على أنها جُبن".
فالنَأَي عن الاعتدال يسوق للشطط، والأخير مشتق من الشط أو الشاطئ وهو الحافة أو الطرف البعيد جداً عن البحر، ومن الشطط اشتقت مفردة "الشيطان" الذي يَشُط بأفكاره عن طرف الوسطية.
وقد ورد عن نبينا (ص):"خير الأمور الوسط"، فيما وصف الإنجليز الوسطية بالـ ،"The Happy medium"
كما دعا الإغريق للوسط الذهبي، أما أرسطو فقد أوقف السعادة على ممارسة الاعتدال، فورد عنه: "تتوقف الفضيلة على ممارسة الاعتدال والوضوح وضبط النفس أمام الرغبات، ولا يملكها الإنسان البسيط، لكنها تتأتى نتيجة خبرة الفرد المتطور، اليقظ.
فالسعادة تتأتى من تنظيم الأخلاق في شكل ثلاثي يكون الطرفان الأول والأخير فيه تطرفاً ورذيلة، فيما يعتبر الوسط فضيلة.
وهكذا تكون الشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهور والجبن، والكرم مَنْقَبَة بين البخل والإسراف، وصوت الحق فضيلة بين صرخات طفل وصيحات بغي.
ويختلف الصواب في الأخلاق عنه في الهندسة، حيث يتحول الصحيح إلى المناسب.
فالوسط الذهبي ليس كالرياضي، أي متوسط محكم النقيضين محسوبين بدقة، إنما يتذبذب مع الظروف المحاذية لسائر الأوضاع، ويبدي نفسه للعقل الناضج المرن فحسب."
عصارة القول، الوسطية حِكمة سَمَاوية رَشيدة، سَهلة تلاوتها، صعب المواظبة على أدائها، فهي مَغموسة بنزق في محبرة واقع يطيح بالقلم كلما أراد خَط طريقاً معتدلاً.. فقد يتيسر لك الكتابة والتنظير عنها، لكنها من أصعب الفنون التطبيقية.