فى صور فى خيالى لا يمكن أن أنساها أبدًا، حفرها جدي الولد الأشقى فى تاريخ الصحافة والأدب، من هذه الصور أختار صورتين بالنسبة لي هما عمر بأكمله، فأولاً أنا حظى لا مثيل له لأننى خرجت إلى الحياة فوجدت جدًا يعشق أولاده وأحفاده ويرفض أن يمضى حتى فى السفر إلا وهم معه وحوله فى كل مكان وعليه فقد كان الأثر داخلنا جميعًا مرعبًا فقد تطبعنا بطبع الجد السعدنى الأكبر أصبحنا جميعًا لا نجلس إلى المائدة إلا وكان "الطرشى" متواجدًا ومتصدرًا الطعام وبعد ذلك تأتى فى المرتبة الثانية اللحوم الحمراء بجميع أنواعها ثم الملوخية ملكة الطعام لدى السعدنى.
وهذه كلها أشياء تفتح النفس وتشجع على الأكل وتساعد على زيادة الأوزان، ولكن السعدنى لا يكتفى بهذه المقبلات، فتجده كل يوم معه أصحابه وأحبابه على موائد الطعام هؤلاء الذين يقدرون صنف الطعام ويتغزلون فيه كما لو كانوا شعراء متيمين بمحبوبة نادرة الوجود.
كان هناك اثنان إذا جاء أحدهما حرصنا على التواجد على المائدة حتى يفرغ الجميع الأول هو عم الحاج إبراهيم نافع عمدة الجيزة الذى كان يجيد صنع ورقة اللحمة وهى الصنف الذى لم أر له أى شبيه ولم أجد أحدًا فى حياتى يصنعه سوى العم إبراهيم.. رائحة ورقة اللحمة لا تزال فى أنفى تسرى فى المعدة والأمعاء وتجعلنى أترحم على الجد الكبير وعلى أصدقاء موائده العامرة، أما الثانى فكان الدكتور إيهاب عفيفى أعاده الله إلى بلادنا بالسلام والخير.. كان الدكتور إيهاب ونحن نجلس إلى جدنا الكبير بعد أن نمضى الوقت كله فى لعب الكرة فى نادى الصحفيين النهرى الذى أنشأه بمجهوده وحده ولا أحد سواه.. كنا نجلس إلى جدنا أنا والنور وأفانك والكرومة وهم على التوالى النور«محمود» وأفانك «مصطفى» أولاد عمتى هبة رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، وأكرم ابن عمتى الأكبر هالة متعها الله بالصحة والعافية.. وكان المطعم يغلق بعد الواحدة صباحًا ولهذا كان الجد يأمر الدكتور إيهاب أن يذهب إلى سور النادى على شاطئ النهر مباشرة ليجد إذا كان هناك أى صياد "صايع" فى هذا الوقت والشيء الجدير بأن أحكيه أن الصيادين كانوا لا يغادرون المكان أبدًا.. لدرجة أنى سمعت جدي رحمه الله فى يوم يقول: دول مش صيادين.. فسأله الدكتور إيهاب: أومال دول إيه يا عم محرر.. فقال له: دول «خنابر» وهو الاسم الحركى للمخبرين عند جدي كنا نضحك للتسمية ولا نفهم معناها فى هذا العمر.. وكان معهم دائمًا السمك البلطى النهرى، كان الدكتور إيهاب يطلق عليهم العصافير.. وكان يقوم بشراء البطاطس والبصل من أسوان الخيرة العامرة التى لا تغلق أبوابها على الإطلاق.. ويقوم د.إيهاب بإعداد صينية لم نتذوق لطعمها أى شبه فى حياتى كلها وكان جدى يقوم بعملية توزيع الطعام علينا وأيضًا إطعامنا وكأننا فراخ صغيرة فى حضرة حنان أم وكنا إذا تعرضنا للضرب أو الزعيق من أى أحد من الأهل كان الملجأ والملاذ إلى جدى السعدنى الكبير الذى كان لا ينام إلا فى حضرتنا نحن أحفاده وكان يختص حسام أخى الصغير لكونه فى مرحلة تعلم المشى فينام إلى جانبه ويقوم بوضع الشلتة والمخدات حتى لا يسقط حسام على الأرض ونحن نلعب الكرة ونتعارك، ومع ذلك كان جدى ينام ويحلم أحلامًا سعيدة واكتشفت أنه لا ينام إلا فى دوشة وخوتة وتليفزيون وربما راديو أيضًا.
أما الصورة الأولى فقد كانت وأنا صغير فى السن جلست فى حجر جدى وكان يدخن سيجارته «السيلك كت» الإنجليزى فأمسك بالسيجارة وهو يشرح لى كيف أدخنها بالطريقة الصحيحة فإذا سحبت نفسا.. ضحك وأصدر أصواتًا أكثر إضحاكًا وهو يقول: ده أنت سعدنى أصيل.. وأما أصالة السعدنى فقد اكتسبها أيضًا حسام عندما كان يبلغ من العمر عامين ونصف العام وذهب ليجلس إلى جوار جده على الطبلية وأمسك بصحن الطرشى وشربه.. ثم بكى من شدة الحريق الذى اشتعل فى فمه وجوفه.. ومع ذلك لم يتوقف عن شرب الطرشى ليضحك السعدنى مرة أخرى وهو يقول له ده أنت سعدنى حقيقى يا ابني.
أما الصورة الثانية فقد كنت ألعب بالكرة مع أفانك وكان أكبر منى بثلاث سنوات وأحرزت فيه هدفين فقام بضربى بعنف فذهبت إلى جدى أشكو له من أفانك فأرسل يستدعيه.. ولكنه رفض أن يذهب وذهبنا إلى حيث يجلس أفانك فى الملعب.. وسأله جدي.. أنت ضربت محمود ليه يامصطفى.. وازاى أنده لك وما تجيش.. فقال مصطفى شوف يا جدو.. ده لو رئيس اليابان نفسه نده لى مش ح اروح ده حط فيا جونين.. أروح لمين وضحك السعدنى ضحكا هيستيريًا وانحنى يقبلنى وهو يقول: ابقى خلى مصطفى يحط جون وانت جون.
الله يرحمك.. ويحسن إليك.. يا أحسن الناس جدي الواد الشقى.