الإثنين 29 ابريل 2024

من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (15)

مقالات15-5-2021 | 21:16

تمثال الكاتب الجالس- متحف اللوفر في باريس

عبر سنوات طويلة، من الجمع، والشراء والسلب، من الشرق ومن الغرب، اقتني متحف اللوفر روائع من القطع الأثرية والأعمال الفنية، منها ما ينتمي لحضارات عديدة، وأزمنة سحيقة، ومنها ما يعود تاريخه لقرون ليست بالبعيدة، جميعها ترفع رأسها في ردهاته مرحبة بالزائرين، وتومئ لهم وتناديهم وهي حبيسة خزائن العرض فيه، وتبتسم لهم ابتسامة من يعرفهم ويتوق إلى رؤيتهم وهي معلقة على جدرانه.

هناك حيث يستوقفك الفن أينما التفت، ويشغل لُبَك التاريخ أينما ذهبت، تطلُّ على مرتادي المتحف قطعة أثرية مصرية فريدة الطابع، تستلفت الزائر وتسترعي دهشته، عمرها يتجاوز الأربعة آلاف عام، تمثال لكاتب مصري قديم يجلس القرفصاء، من الحجر الجيري الملون، يعد من أهم مقتنيات المتحف من القطع الفنية، وأحد اهم مقتنياته من الآثار المصرية القديمة.

يجمع التمثال الكثير من السمات الفنية التعبيرية، والتقنية النحتية، في هيئته، وفي تقنية نحته، وفي تلوينه وزخرفته، وفي المواد التي استخدمت في صناعته. جميعها تجعل منه قطعة فنية فريدة. فهو يصور كاتباً، يجلس القرفصاء، الوضع الأكثر شيوعاً للكتبة في مصر القديمة، والذي يرسخ ما لهذه المهنة من استقرار وثبات ومكانة، فقد كان الكتبة يحظون بتقدير كبير في مصر القديمة. ويكفي ما ذكر في تعاليم ونصائح الأدب المصري القديم عنهم، ومنها: "كن كاتبًا حتى تظل أطرافك ناعمة ويديك ناعمة، ويمكنك ارتداء اللون الأبيض، ويرحب بك رجال الحاشية".

ويصور التمثال صاحبه وهو يقوم بنسخ مخطوط أو مستند، يمسك بيده اليسرى لفافة من ورق البردي مفرودة على حجره، بينما تبدو يده اليمنى وكأنها كانت تمسك قلمًا من القصب، اختفى منذ فترة طويلة، أو بأداة كتابة ما غير موجودة مع التمثال. كلتا يديه موضوعتان على حجره، تشير يده اليمنى إلى الورقة كما لو أنه بدأ بالفعل في الكتابة، بينما يحدق في المشاهد بهدوء بعينه السوداء المفعمة بالحيوية.

وعلى الرغم من كون التمثال لا يبدو أنيقاً، مثل تماثيل أخرى من مصر القديمة، فقد بدا في هيئته المتواضعة أكثر تعبيراً، فملامح وجه تدل على رجل قد تجاوز الشباب وطرقت الكهولة أبوابه، وهو ما يلمِّح إلى خبرة حياتيه، كما تعبر ملامح وجهه عن يقظة وانتباه، وصرامة وجدية بادية لا تُنكر.  يمتلك الكاتب جسمًا طريًا وبدينًا بعض الشيء، مما يشير إلى أنه ميسور الحال ولا يحتاج إلى القيام بأي نوع من العمل البدني. صدره العريض بدا واقعياً مع ملامح وجهه، وكذلك علامات "منتصف العمر" في بطنه الممتلئة قليلاً.

شعره القصير يقول بأن الشباب فيه قد ولَّى، فلا شعر مستعار يمنحه الفتوة والجمال، وملابسه المتواضعة تؤكد هيئته المتواضعة، فلا ملابس فاخرة يتزين بها، فقط يرتدي نِقبة بيضاء (إزار أبيض من الكتان) بسيطة من خصره حتى ركبتيه، تدعِّم لفائف ورق البردي الملفوفة جزئياً والمفرودة فوقها. وهو ما يعكس انساناً عمله هو جل همه. وهذه التفاصيل جميعها، ومعها تفصيلات نحت اليدين والأصابع والأظافر النحت الواقعي الدقيق يؤكد مدى ما يحمل التمثال من دلالات تعبيرية.

ومع ما في الجسد من ترهل، وثنيات جلد بادية للعين، وهيئة تدل علية أنه لم يكن في حاجه إلى القيام بأي نوع من أنواع العمل البدني، فإن العيون التي تكاد تنطق، تمثل قمة الإثارة التعبيرية في هذا التمثال. ولعل الصانع الماهر، الخبير بخواص الصخور، قد برع في صناعة العين من صخور أكثر تعبيراً عما يريده. فالعينان منحوتتان من معدن الماجنيزيت الأبيض (كربونات الماغنسيوم) المعرَّق باللون الأحمر (كأنما تتخلله أوردة حمراء اللون)، فيما نُحت الجزء الداخلي من العينين من البلّور الصخري، الجزء الأمامي منه مصقول بعناية، تمت تغطية الجانب الخلفي منه بطبقة من المواد العضوية تعطي في نفس الوقت اللون الأزرق للقزحية وتعمل كلاصق لها. وتمَّ تثبيت العين بأكملها في التجويف، فهناك مشبكان نحاسيان (أو من سبيكة النحاس والزرنيخ) يثبتان كل عين في مكانها، كما تمَّ تمييز الحاجبين بخطوط رفيعة من طلاء عضوي لإعطاء مظهر خط من الطلاء الأسود يحدد الحاجبين، أما حلمات صدره فقد صُنعت من الخشب. وهو تنوع في استخدام المادة وتوظيفها توظيفاً تعبيرياً ثرياً في هذا التمثال.

عّثر على هذا التمثال الفريد، عالم الآثار الفرنسي "أوجست مارييت"، وقد جاء إلى مصر في سبتمبر 1850؛ مرسلاً من قبل متحف اللوفر في باريس لشراء مجموعة من المخطوطات القبطية. ولما فشل في الحصول على المخطوطات التي أُوفد لأجلها، استغل وجوده في مصر فقام بزيارة المعابد، وتصادق مع قبيلة من البدو، حيث صحبوه إلى سقارة، وبدا الموقع له في ذلك الوقت كما وصفه: "مشهداً من الخراب ... وتلالاً من الرمال". وعندما شاهد "مارييت" رأساً مدفوناً لتمثال أبي الهول، اشتعل حماسة وأخذ يفكر في أمرها وأمر نظرائها. في تلك اللحظة الفارقة في حياته، تناسى المهمة التي جاء لأجلها، وغيّر برنامجه تماماً، فاستأجر ثلاثين عاملاً وجمع بعض الأدوات وبدأ في الحفر، وخلال مدة قصيرة كان "مارييت" قد عثر على الكثير والكثير من القطع الأثرية. وبالقانون، وبغير القانون، كان يتم الاستيلاء على هذه الآثار المصرية ويتم تهريبها إلى فرنسا، ففي عصره كان اقتسام غنائم الحفائر هو العرف السائد، وكان نصيبه من الحفريات أربعين صندوقاً كانت تشمل حوالي 2500 قطعة فنية أثرية. كما كان يغافل أو يرشو المفتشين، ونجح في إرسال آثار أخرى إلى متحف اللوفر بباريس من خلال القنصلية، وبالتعاون مع سائحين عابرين يخرجون من موقع عمله وقد امتلأت جيوبهم. وسافرت إلى باريس مئات الصناديق المليئة بالآثار التي لا تقدَّر بثمن، أثرت متحف اللوفر يناير 1852، وكان منها هذا التمثال الرائع. قبل أن يدرك "مارييت" أهمية بقاء آثار مصر في أرضها وقبل أن يسعى لإنشاء متحف لها.

وكان قد عثر عليه في 19 نوفمبر 1850، شمال أبي الهول في الطريق المؤدي إلى "السرابيوم" معبد المعبود الأغريقي "سيرابيس" بسقارة، ولا يزال موقع العثور عليه بالتحديد غير معروف، حيث تم نشر الوثيقة التي تصف هذه الحفريات بعد وفاة "مارييت" وفقدت مجلة الحفريات الأصلية.

لم يتوقف الأمر عند الجهل بمكان العثور على التمثال تحديداً، فحتي اليوم مازالت شخصية هذا الكاتب الجالس مجهولة للعلماء والمؤرخين، وإن كانت القاعدة التي يجلس عليها (نصف الدائرية) تشير إلى أنها كانت مصنوعة من قطعة صخرية أكبر مما تظهر علية اليوم، ومن المفترض أنها كانت تحمل اسم وطبيعة صاحب التمثال. ويعتقد البعض أنه لشخص يُدعي "خون رع"، وهو ابن الملك خفرع، أحد ملوك الأسرة الرابعة (2620-2500ق.م، ولكن الأمر غير مؤكد. وهناك من يقترح انتسابه إلى الأسرة السادسة إلا أن الخصائص الأسلوبية، والشفاه الرفيعة غير العادية، والصدر العريض، ووضعية الجذع جميعها تدعِّم انتسابه إلى الأسرة الرابعة. وإحدى الحقائق الإضافية المؤيدة لهذا أن التمثال ممثل في وضع "الكتابة" بينما يبدو أن الكتبة من فترة ما بعد الأسرة الخامسة تم تصويرهم بشكل أساسي في وضع "القراءة".

ومع جهلنا باسم صاحب التمثال، ولقبه، والفترة التي عاش فيها بالتحديد، ومكان العثور عليه تحديداً، إلَّا أنه لا يزال أحد الشخصيات البارزة والشهيرة والمعروفة في قسم الآثار المصرية في متحف اللوفر.  وتتوفر فيه من السمات الفنية التعبيرية، والتقنية النحتية والزخرفية، ما لا يتوفر في الكثير من المنحوتات المصرية القديمة غيره، وهو ما يجعله على قمة الأعمال الفنية والقطع الأثرية المصرية في متحف اللوفر.

Dr.Randa
Dr.Radwa