محمود السعدنى من يرى أدبه على الورق، يذهله الجانب الآخر فى الشخصية.. وأريد أن أقف عند هذه النقطة.. لأنها محيرة، فقد كنت قريباً فى بدايتى الصحفية من الأستاذ محمد التابعى، وكنت أشعر أن التابعى ذلك الكاتب اللاذع، الذى ربما وضع قواعد «اللسعات» فوق الورق، كان له أيضاً - فى شخصيته الداخلية - شخصية بعيدة عن الناس، وليست مُقربة منهم.
ومحمود السعدنى كان قريباً من الناس.. عشت معه الفترات التى كان يجتمع مع الكاتب والناقد عباس الأسوانى، وكنا نجلس أحياناً، ونحن فى روزاليوسف، فى مكتب كامل زهيرى شفاه الله.
وكنا نشعر دائماً أن محمود السعدنى يتلقى تليفونات غريبة، تليفون عن ابنته المريضة.. وتليفون: «إن أكرم جت له أزمة» فكان يغادر المكان، ويتركنا جميعاً، ثم يذهب إلى بيته.
ولا أحد على الإطلاق يتخيل هذا الجانب الشخصى، فى شخصية محمود السعدنى، الكاتب اللاذع الساخر.
أذكر أنه قد مرت بى ظروف حادة وشديدة أيام 1964، حيث فصلت بأمر السيد سامى شرف، من قبل النظام الناصرى الشمولى، دونما كلمة أو تحقيق، أو أى شىء.
وكان محمود السعدنى حريصاً فى هذه الفترة أن يقوم بزيارتى فى بيتنا بالمنيل، والذين زارونى فى تلك الفترة اثنان.. أحدهما مر علىّ وطلب منى النزول من البيت وكان موسى صبرى، والذى جاء إلى المنزل كان هو محمود السعدنى.. فى تلك الفترة طلب منى موسى صبرى أن أكتب حوارات مع بعض الشخصيات دون أن أضع اسمى فى نهاية الحوار، ولو عرف أحد فى ذلك الأوان، لكان موسى صبرى وراء قضبان كثيرة!.
أما محمود السعدنى فقد جلس مع عبدالرحمن الشرقاوى.. وقال له «ما تيجى نحسب فروق اللائحة» بعد أن زادت مرتبات الصحفيين، ولم يتركه إلا بعد أن حصل على مبلغ كبير من المال، يخصنى بأثر رجعى، وأتى السعدنى إلى بهذا المبلغ، حيث كنت لا أعمل لمدة 83 يوماً، حينما أتى إلىّ السعدنى ومعه هذه الأموال سألته عن مصدرها وبطريقته الساخرة قال لى: إن الشرقاوى رفع المبلغ، الذى كان من المفروض أن يحصل عليه الصحفى فى سفرياته، "واحنا حسبنا لك" كل الأيام اللى سافرت فيها، وأنا كنت دائم السفر خارج مصر.
وعلينا أن نتوقف عند هذا الموقف لنكتشف أن فى داخل محمود السعدنى أب من نوع خاص، يقف إلى جوار أصدقائه وأحبائه فى المحن بشهامة و«جدعنة» ابن البلد.
نقفز إلى لندن.. فحينما قابلته فى شوارع لندن الزاخرة بالمصريين فى ذلك الوقت، حيث التقيت أحمد عباس صالح والكاتب المسرحى ألفريد فرج.
كنا نلتقى سوياً فى محل صحف وسجائر، وأعتقد أن صاحبه عربى، كنا نجلس لساعات طويلة، يتحدث فيها محمود السعدنى ويقول آراءه فى العديد من القضايا، وهو شعلة من الداخل.
وإذا أردنا أن ندخل إلى منهج الكتابة عند محمود السعدنى، فاللقطة عنده هى أخطر شىء ومن الممكن أن يكون أكرم ابنه قد ورث ذلك عنه..
لو عدت إلى الوراء قليلاً.. أقول إن الفترات التى عشتها مع السعدنى كانت فترات ود متبادل، رغم أن شخصيتى، ليست شخصية لاذعة ولا ساخرة، إنما هناك شىء ما حببه فىّ، ربما وفائى له، وقد كنت أحس بأن محمود السعدنى لديه ملكة الفنان.. وربما الفنان هو الذى دفعنى لكى أقترب منه بشدة.
لكن الأهم هو حينما أصبح رئيساً لتحرير مجلة صباح الخير.. أذكر أنه أرسلنى لعمل حوار مع شعراوى جمعة، أحد الذين كان السعدنى يحبهم جداً، وكان شعراوى يبادله نفس الحب.. ولم تكن هذه الزيارة بالنسبة لى جديدة، لأننى أيام أن كان فتحى غانم رئيساً للتحرير.. ذهبت إليه وهو محافظ السويس.. وأتذكر عنوان الحوار "غرفة النوم أهم من الصالون" وكان المضمون الذكى الذى وراء ذلك، كما يرى أن الجوهر أهم من المظهر.
حينما ذهبت إلى شعراوى وكان فى ذلك الوقت وزيراً للداخلية.. قال لى هل أنت ومحمود السعدنى أصدقاء؟!
فرددت عليه: نحن زملاء بدرجة أصدقاء.
أثناء عملى مع محمود السعدنى، كنت حريصاً جداً - ولا تفهم لماذا - على إنجاح تجربته بأى شكل من الأشكال.
محمود السعدنى فى فترة رئاسته لتحرير صباح الخير، كان يرى أن الكتابة ينبغى أن تكون مساحات قصيرة، والمساحات الأكبر للرسم هو طبيعياً كان يؤمن بالكاريكاتير إيماناً شديداً.. وكنت أنا أستدعى فى رأسى ما كان يعلمه لى فى بدايات التحاقى بدار الهلال «فوميل لبيب».. علمنى فوميل كيف أضع المعلومة مركزة، ولكن كان اعتراضى على «فوميل لبيب» أن هذه المعلومات مثل نوع من الدواء تبلعه وتخلص منه! لكنى أردت أن أبتلعه بمذاق خاص.
إذ لا بد من إضافة الأسلوب، ليكون شيئاً فيه رشاقة وفيه ذكاء.
أفرد لى محمود السعدنى صفحات المجلة، وذهبت فى أسفار عديدة، والتقيت بكثيرين فى هذه الأسفار.. ولكننى كنت حريصاً على ألا أكون فى منصب بالمجلة.. فكل ما يعنينى أننى مجرد محرر واسمى يوضع ابتداء من العدد الرابع فى صباح الخير، أى من بدايات العمر، حيث عينت في 1 يناير 1975، بمبلغ وقدره ثمانية عشر جنيهاً، وأربع وعشرين قرشاً.
معنى هذا أننى عشت زمن أحمد بهاء الدين، وزمن فتحى غانم وعشت زمن لويس جريس، ثم لويس جريس ومحمود السعدنى رأسا التحرير، ثم أصبح محمود السعدنى رئيساً للتحرير وحده.
ضد الناموس العام
ومحمود السعدنى لديه «لازمة».. الشتائم التى قد تخاصم الناموس العام، فتصدر من الحنجرة فقط، وليس من القلب.. وهذه مسألة مهمة للغاية.
لم يكن غريباً على محمود السعدنى فى هذه الشتائم، ولأننى عشت شتائم - وأنا بعد طفلاً فى الصحافة - من جليل البندارى، الذى كانوا يسمونه «جليل» الأدب، عشت هذا، وكانت هذه الشتائم تضحك بشدة أحد مكتشفى هذه المواهب فى ذلك العصر، وهو كامل الشناوى، الذى كان قد اكتشف لدى ما يمكن أن يسمى بالجرس الموسيقى للكلمة، وكان يستمع إلى أحد الأشخاص، يجلس وهو نحيل الجسم، ويدقون طوال الوقت.. وهو بليغ حمدى.
ومحمود السعدنى يستطيع أن ينظر لشخص ما، يكتشف فيه موهبة كتابة ويعطيه الفرصة كاملة، لأنه كان من أشهر كتاب مصر وما زال حتى الآن.
كنت دائماً أعرف أنه فى الغربة يود العودة إلى مصر، لكننى كنت أحس أحياناً أن هناك من ينتظره فى مصر، وهم زوجته وأولاده.
بعد عودة محمود السعدنى إلى مصر، حدثت علاقة الود بين أسرة محمود السعدنى وزوجتى الإذاعية آمال العمدة - رحمها الله - وكانت آمال ترى أن محمود السعدنى، هذا الشتام، «هذا الساخر» لا يمكن أن تتخيل مدى العلاقة العميقة بينه وبين زوجته.
فاسم محمود السعدنى كبر، وأسلوبه ملأ الوجدان، وكلمته نادرة، رشقت فى الوجدان، لأن وراءه امرأة.. أم، أبعدته عن عملية التربية، وأصبح متفرغاً للكتابة، وفى الرد على الشتائم، وفى المعارك وفى القضايا.
كانت لمحمود السعدنى عادات غربية، أنه يبدأ عمله فى المساء.. فكان مجيئه إلى صباح الخير فى المساء، يشعرنا بجو افتقدناه.
وكانت لديه رغبة شديدة فى إعطاء مساحات للصحفيين بلا حدود.
وأنا أعلم عن رؤساء تحرير كثيرين أنهم يتمركزون فى أنفسهم فقط، والمساحات الأخرى المتاحة تكون صغيرة جداً.
وهو كرئيس يفكر لغيره، على عكس رؤساء تحرير يطلبون الفكرة من الصحفى.
«كنت أكتب فى الصفحة الأخيرة بالأخبار، وكان محمود السعدنى يكتب فى نفس الصفحة، ودائماً كنت أبحث عن مقاله، وإذا لم أجده ينتابنى قلق شديد، خاصة وأنه من المنضبطين، وهو الذى يكتب فى أى وقت، وفى أى لحظة، وفى أية ظروف، ولا يمكن أن يمنع قلمه شىء!.
منهجه
أبرز الأشياء المهمة فى منهج السعدنى «اللمة».. وكانت علاقته مهولة» بإبراهيم نافع.. الفلاح المصرى البسيط.. «العمدة» « وإلى حد كبير كان لديه «منهج اللمة» مهماً جداً، وحينما أحلل اجتماعياً منهج اللمة، أشعر أنه لا يستطيع أن يعيش وحده..
وجدت هذه اللمة فى لندن، ووجدتها فى صباح الخير.. كما أنه يحب اللمة فى السهر، سواء فى نادى الصحفيين بالجيزة، أو فى أى مكان يعشقه.
وحينما اقتربت من صلاح السعدنى، اكتشفت أن محمود السعدنى أستاذه فى كل لوازمه.
بعض الناس قال إن محمود السعدنى أخذ من أخيه صلاح، لكن فى الواقع أن صلاح حينما جبل على حب أخيه الأكبر محمود، أخذ عنه أشياء كثيرة.
إن محمود السعدنى من أجمل الحكائين فى مصر، ومن قبله حسن فؤاد من أجمل الحكائين فى مصر أيضاً، ويساويه أيضاً عباس الأسوانى، وهو واحد من الحكائين العظام.
وهو كحكاء لديه وسيلة وطريقة وجاذبية لا حد لها.
ومما لا شك فيه أن أول من بدأ هذا الفن - فن الحكى - كامل الشناوى وكان إذا تناول «حدوتة».. وحكاها يستمتع بأن الناس تضحك كثيراً.
ومحمود السعدنى سخريته حادة، وسخرية كامل الشناوى وديعة فى نهاية الأمر.. وسخرية محمود السعدنى من أجل بلد ووطن.. أما كامل الشناوى فكانت السخرية عنده من أجل المرأة، والعواطف والأحاسيس.
محمود السعدنى أشهر قلمه فى وجه بشر لا حدود لهم، وناس فى السلطة فى عز الأوان.
كان كامل الشناوى يشهر هذا القلم فى وجه الحبيبة.
أما عباس الأسوانى، فقد كان حكاء من نوع خاص، ولعل أجمل سهرات الوجود، هى أن ترى الأسوانى والسعدنى فى سجال، حول حدوتة أو حكاية.
ورث هذا عن محمود السعدنى، صلاح أخوه.. والذى يحكى الحكاية كما تفرض دراميتها، وليس بالضرورة أن تكون الحقيقة.
وذلك فإننى أرى أن دراما الحكاية عند محمود السعدنى، كانت دائماً مهمة جداً، بغض النظر عن التفاصيل والحقائق.
يبقى أن أتذكر أننا لم نعرف ضحكة أحمد بهاء الدين، إلا من نكتة يقولها محمود السعدنى، فالنكتة عنده لها أبعاد فهى ليست مجرد كلام، وكان يحترم بشدة أحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل، ومعجب بجنون صلاح جاهين.
وأقول إن محمود السعدنى كان مخيفاً للنجوم، فالنجوم كانوا يخافونه، ويعملون له ألف حساب، لأنه كان يكتب باباً فى صباح الخير بعنوان" ذكاء هذا الرجل" وكان يكتبه فى بعض الأحيان بعنوان "قفا هذا الرجل" وفى أحيان أخرى بعنوان غباوة هذا الرجل" بمعنى أنه يتناول جانباً فى الشخصية" ويقوم بتحليله وتقييمه.
إنه وهو يكتب سبق كل الكتاب الساخرين بشكل لاذع وكما مشرط الجراح الماهر!.