تعتبر المجموعة الشعرية الأحدث للشاعر المصري مؤمن سمير الصادرة مؤخرا 2020 عن مؤسسة أروقة للنشر بالقاهرة هي في تقديرنا واحدة من المجموعات الشعرية التي تعكس صوتا شعريا خاصا، وتجسد في تقديرنا حالة مختلفة في الشعر المعاصر من حيث القدرة على إنتاج الشعرية من الاشتغال على المقاربة الرمزية للذة الحسية للجسد.
الحقيقة أن هذه الحال الشعرية لها جذورها وروافدها الثرية في الشعر العربي القديم، فالنزعة الحسية قديمة لدينا ولكننا في عصور الضعف وغياب الثقة وغلبة التطرف تراجعت الشعرية العربية في ارتياد هذه المنافذ والمسالك الشعرية.
وجاءت النزعة الحسية حاضرة لدى الشاعر المكي القديم عمر بن أبي ربيعة ولدى أبي نواس الشاعر العباسي الأكثر ذيوعا ولدى ابن الرومي وأبي حكيمة الكاتب الذي أنتج الشعر وفكاهته، وغيرها الكثير من النماذج القديمة التي كانت ابنة عصور القوة والثقة في الذات والعمل على مقاربة اللذة الحسية بمزج شعري ولغوي يمثل متعة ذهنية وروحية أكثر من فكرة الإثارة الجنسية والانحلال التي اختزلنا فيها هذه الصورة من الفن في العصور الحالية.
ويستشعر مؤمن سمير تلك الطاقة الشعرية الكبيرة الكامنة في مقاربة الجسد ولذته الحسية وينفذ إلى ما تتوهج به العلاقة الجسدية من القلق والشد والجذب والقرب والالتحام وغيرها من المشاعر التي تراها الذهنية الشاعرة وفق نسق رمزي تحويلي يجعل الحركات والتفاصيل من الغوص والارتحال والإقبال والإحجام وغيرها أفعالا مقدسة أو أسطورية أو يعود بها إلى لحظات الخلق الأولى، لحظات الارتداد إلى البدائية الكامنة في أصل الإنسان، والحقيقة أنها أحيانا تصبح حالا وحشية وليست بدائية فقط، يرتد إلى لحظات العطش والحنين المتجذر في الذات الإنسانية الراغبة في العودة إلى الرحم؛ لأن دراسات نفسية عديدة ترى أن العلاقة الجنسية هي شكل من أشكال الرغبة في العودة إلى الرحم والاختباء في الكهف أو الطبيعة والغابة التي خرج الإنسان منها بالولادة.
وبحسب ميرسيا إلياد وكاميلي باليا وغيرهما من دارسي الأساطير، نجد أن هناك اتفاقا في تحليل العلاقة الجنسية على أنها ارتداد إلى الرحم أو الأم والتحصن بها مرة أخرى، ومن اندفاع تلك الحال تأتي الوحشية وما في العلاقة من التحام قد يبدو قاتلا.
وتُعد هذه العلاقة الغامضة شبه الحلمية الكاسرة والمحطمة لقوانين الإدارك، حيث يتجول مؤمن سمير في مجاهلها للبحث عن رحابات الشعرية المتوارية من جنون الإدراك الحسي وجموحه، ويستشعر أنها مازالت بيئة خصبة للقول والبحث عن الجديد من المشاعر ونقاط التقاء الوجداني بالمادي الخالص في توالدات شبه انفجارية تتفجر معها اللغة الشعرية ذاتها بشكل مفاجئ، كما تتفجر الصور الشعرية بما قد يبدو مذهلا ويشكل مفاجأة ليس فقط للمتلقي ولكن للذات الشاعرة نفسها التي تمضي مع الحال الشعرية في نوع من الاندفاع غير المحسوب أو غير المعروف نهايته أو خاتمته بشكل واضح.
ومن ناحية أخرى، لا تعلم الذات الشاعرة نفسها بشكل كامل بل تبدو في رحلة من الاستكشاف والتقدم في مجاهل النفس وخفاياها عبر العلاقة الجسدية بالغريب منها أو المعتاد، بالمألوف والشاذ أو غير الذي لا حدود من الأفعال، بالرحمة والقسوة والسادية والعطف والانسحاق وغيرها الكثير والكثير مما يرصد ويذكر ويطرز وينسج قصيدته منه بما يشبه اللاوعي فكأن القصيدة تغزل نفسها نفسها بنفسها عبر أحداث تبدو متلاحمة بشكل حتمي، فكل فعل أو حدث أو لمسة تستتبع حركة أو جنونا أو نظرة أو لمسة مغايرة أو اقتحاما، وهكذا إلخ، في حال من الاندفاع الذي يشبه سقوط صخرة من قمة جبل ولا يملك أحد إيقافها.
تزيل القصيدة الحدود الفاصلة بين الرجل والمرأة، بين الذكر والأنثي، وتجعل ما لها له وما له لها، وكأنه هي وكأنها هي، في نوع من الانزياح اللغوي وانزياحات ضمير الملكية الذي تنسب له الأعضاء والأفعال والحواس لتكتمل حال السيولة والاندماج بين الذاتين فلا نعرف هل هو يرتد إليها أم هي ترتد إليه أو تستعيد شيئا لها مفقودا وتائها عنها منذ بدء الخليقة، وهو ما يمثل تحقيقا للمعنى الأسطوري المتداول في العقيدة الفيدية عند الهنود عن انقسام الأرواح قبل الخلاق والميلاد، وهو كذلك ما أشار إليه ابن حزم في كتابه طوق الحمامة وبحثه عن تفسيرات للحب. وبإحساس عال تلف مقاربة مؤمن سمير لهذه اللذة الجسدية بحال من الذوبان والعشق الصوفيين عبر حال من التلاشي والانمحاء في الحبيبة أو المعشوقة التي تصبح في كثير من الأحيان نموذجا فوقيا أو إلهيا أو رمزا له وللطبيعة الأم، ويقارب الظلال النفسية اللازمة لتلك المشاعر من التلاشي وما ينتج عنها من التوزع والرغبات المتناقضة بين المزيد من الاندماج وبين الرغبة في الفرار والهرب.
وقال سمير، في أحد لوحات القصيدة الأولى (ناسوتي في لاهوتك): "قمت في الصبح وكانت ذراعك تطل من رأسي، وساقك تلفُّ بلادا وتعود تقصُّ.. عيونك بكسلها تتفتح وتقولين أتوق أن أنغلق اللحظةَ.. سنواتٌ والمقصُّ مفتوح على سِكَّتهِ، فلترحم سيِّدتكَ كيلا تقضم كبدك تلحس دمك تدوسك في المرآة.. أغلق عيني وأبتهلُ.. مسامي امتلأت بالشهيق وبالهاربينَ من نزيفِ الغابةِ والأمطار التي تشفّ تحتك حتى تشم النَّدى.. يغرقني ماؤك العذبُ المالح حتى أذنيَّ.. أطفو وأغطس.. نَفَسي يغيبُ.. شدوني منِّي.. أوحشتني الربةُ وأنا فيها.. تستحضرين الأمومة عندما تدلين ثعبانكِ.. أتعلق به وأصعد.. ألهث بردان يا أمُّ.. أرتعد فيأتي الأب من عضوكِ حاملا صليبه ويربت على عظمي.. يقرأ على رأسي فأغفو/ وعلى مروجي ترعى ذئابٌ/ وتلوح أسطورة". الديوان ص21.
ويأتي هنا ثمة عدد من الملاحظات المهمة، فالأنثى هنا مثورة أعضاؤها في كل مكان، متباعدة وثمة مسافات قصية بينها، ومنها ما يكون بداخله أي في ذاكرته ووجدانه ومنها ما يكون خارجه ولا يمكن السيطرة عليه، فالذكر أصغر وأعجز من أن يحتويها كلها، فالأنثى هي الأصل وهي الطبيعة كلها، ولذلك فإن ذراعها تطل من رأسه، أي بداخله أو مازالت تلح على عقله وذاكرته من الأمس، وهنا ثمة زمن مبتور وغائب هو الزمن السابق، أي الليل أو المساء، لأن الزمن الآني هو الصباح بحسب زمن تلك اللوحة (قمت في الصبح).
وجاء ثمة تنوعا في أزمنة الالتحام الجسدي ليغطي كل الوقت ومراحله، فالزمن الحاضر/ الصبح، يستحضر الزمن الغائب وهو الليل أو المساء، غير أن اللوحة الجسدية الحاصلة في الصبح تعني شيئا مختلفا عن تلك التي تقع في المساء، فإن كانت المسائية قد تأتي للراحة والاستكانة، فإن الصباحية أو التي وقعت في الصبح جاءت للإنتاج أو اقترنت بالولادة والأمومة وانتهت بدورة الزمن وإنجاب (الابن الأب) الذي يحمل صليبه كما يأتي في آخر اللوحة حين يقول (أرتعد فيأتي الأب من عضوكِ)، فالابن أب كذلك وهو الذي يمنح الحماية والدفء بعد ذلك حين يشيخ والده ويكبر، ولذلك قال (حاملا صليبه ويربت على عظمي.. يقرأ على رأسي فأغفو) فهذا المولود يصبح في الصورة التالية عبر اختزال صريع للزمن هو الأب الذي يمنح التربيت في إشارة إلى كل أشكال التدعيم والمساندة والعطاء ويقرأ على رأس أبيه ليغفو، ربما لينتهي أو يموت هنا في دورة كاملة للخلق.
فمن جماليات هذا النص وإدهاشه هو أن جعل العلاقة الجسدية الطاغية بقوة لذتها الحسية في أول اللوحة جزءا من بنية كاملة ودورة حياتية مكتملة تصور دورة الخلق من الميلاد والموت واللذة التي بينهما.
ومن القيم الدلالية، نحصل على بعض الأفكار الخاطفة التي هي في الأصل أفكار مركزية أو كلية مما يمثل أفكارا وجودية ضاغطة مثل فكرة الزوجة التي في الأساس أم، والمقصود هنا فكرة الأنوثة نفسها، لأنها هي الأصل كما في أغلب الأساطير القديمة، فالمرأة هي الأرض والطبيعة وهي التي تنبت فيها البذور والحبوب، بينما الذكر هو المطر أو الماء الذي يتسبب في الإنبات ليس أكثر.
في هذا النص جماليات عديدة بعيدا عن القيم الدلالية والأفكار الكبرى التي تندمج في حركة الصورة الجنسية، وتلك اللوحة المتحركة المرسومة التي عبرت من نافذة العلاقة الجسدية إلى دورة الخلق كلها وأشارت إلى العلاقة الجدلية بين الأنوثة والذكورة وكافة هذه الأفكار المهمة، فمن جماليات البنية الشكلية السرد وقفزاته الواسعة في الزمن وقدر احتياج المتلقي لدرجة من المشاركة واليقظة في الربط بين هذه الوحدات والأحداث الموزعة عبر الزمن الممتد، من لحظات الشوق والغزل أو العطش والرغبة ولغة التهديد اللذيذ الخفيف منها وطلبها بأن يطلبها في مشهد أقرب للتداولي تمارس فيه الأنثى على ذكرها قدرا من الدلع وهي تعرف قدرها ومكانتها العظمى لديه، حين تقول له (فلترحم سيدتك كيلا تقضم كبدك)، ثم المرحلة التالية التي يحدث فيها الاندماج والتوسل وأنه يرغب في الفرار من ذاته فلا فرق بينها وبينه دليل على توحد الجسدين واكتمالهما ببعض، ثم المرحلة الأخرى التي تفرض فكرة الأمومة ظلالها ولكنها ترتبط بحركة مكشوفة في لغتها الجنسية تجعل المشهد أثقل حضورا في ذهن المتلقي، على أن الرمزية لا تنفصل عن لغة النص في أي مرحلة ولكنها تتفاوت وترتبط بمستوى المتلقي وإدراكه في الأساس، فحين يقول الشاعر ( تستحضرين الأمومة عندما تَدُلِّيْنَ ثعبانكِ) فإن القارئ اليقظ فقط هو الذي سيدرك ذاك الربط بين الأمومة وإدخال العضو الذي صار ثعبانا يعود لحجره أو سكنه، على أن كاف الخطاب هنا التي تصبح مضافا إليه وتجعل الثعبان منسوبا إلى الأنثى هي علامة في غاية المركزية والأهمية في موقعها الشعري وربما يكون الشعر كله نابعا منها، لكونها جعلت هذا العضو الذي هو بجسد الذكر إنما ينسب للأنثى، فكأنه شيء ضائع ومفقود منها وحان الوقت ليعود لأصله، وبعدها يكون الميلاد وتحدث المقابلة بين الدخول والخروج بين العضوين، فبعدما يدخل الثعبان يخرج الأب في عملية للولادة، وتأتي المرحلة الأخيرة خاتمة بانورامية تقفز خارج حدود الشخصي إلى الإطار الكوني والتكراري الدائري في العلاقة بين الخلق، فالأب يرهم والابن يرعاه وينتهي أو يموت، ليكون كذلك في النص وعلى مسافات متقاربة منه ثمة ميلاد وموت، وبعدها تأتي ذئاب وترعى على مروج ذاك الأب الميت، بما يعني دورة جديدة للحياة بشرها واستلاب ما ترك وراءه من المروج أو نتاج العمل والحب والجنس وكافة أنشطة الحياة وكل ما يرتبط بحبها، فبالجنس يستدل النص على محبة الحياة المنتجة أو الخالقة للمروج، وينتهي النص بتلوح أسطورة، في دليل على قصة جديدة آتية في الطريق أو ربما إشارة إلى فكرة تدوين التاريخ أو كتابة الحكايات في لوحة الوجود. فالأسطورة إما لكونها مجرد قصة تتبعها قصة أو لفكرة التدوين، وهو الآخر يتسم بالدائرية أو التكرار، فتدوين مرحلة يأتي بعده آخر وهكذا إلى ما لا نهاية.
ومن جماليات نصوص هذه المجموعة الشعرية الإيقاع الذي يتشكل عند الشاعر مؤمن سمير عبر مسارات خاصة ترتبط بالجملة والأصوات والدلالة وكافة مستويات البناء اللغوي للنص، فعلى سبيل المثال نجد أن شكلا ما في علاقة الأفعال المضارعة مع بعضها داخل الجملة ينتج إيقاعا داخليا فريدا على نحو ما نرى في قوله في الاقتباس السابق (أطفو وأغطس.. نفسي يغيب) فالجملتان الشعريتان هنا مركبتان من كلمتين الفعل المضارع يشكل 75% أي ثلاثة أفعال مضارعة في مقابل كلمة (نفسي) التي تتشكل من اسمين، لكنها تحسب كلمة واحدة.
وقال النحويون إن الفعل المضارع يدل على الاستمرار، فأطفو وأغطس فعلان مستمران إما بالتكرار أو امتدادهما في الزمن، أي أن الفعل الواحد يستمر ويمتد لوقت طويل دون تكرار، وكذلك الفعل المضارع في الجملة الثانية (نفسي يغيب) فكانه يغيب بامتداد قد يصل إلى الموت أو التلاشي الكامل والنهائي في أنثاه، المهم أن التنغيم وحسن التقسيم وغلبة الفعل المضارع شكل إيقاعا خاصا ربما يكون إيقاع الحركة في المشهد أو جزءا منه، وهذا مظهر جمالي ربما يكون نادرا حيث يحدث تطابق بين إيقاع العملية الجنسية وحركتها مع إيقاع لغة النص الشعري ونغماته وامتداده في الزمن.
والحقيقة إن هذه مجرد أمثلة، لكن في المجمل نحن أمام مجموعة شعرية متفردة وعلى قدر كبير من الخصوصية والثراء الدلالي والجمالي وجديرة بعديد القراءات والدراسات وهي مصدر متعة كبيرة وأكيدة في رأينا ولولا قلة المساحة لتناولنا كافة نصوص المجموعة على نحو ما قاربنا هذه اللوحة الشعرية المقتبسة والتي نتصور أنها هي نفسها يمكن ملاحظة المزيد في بنائها ودلالاتها.