بقلم – د. حسن أبوطالب
إذا كان من الصعب رفض أى جهود يمكن أن توقف آلات القتل المستعرة فى ربوع سوريا، ومن الصعب أيضا انتقاد أى مساع يمكن أن تؤدى إلى التخفيف من معاناة ملايين السوريين المشردين والمحاصرين والُمرحلين قسرا من قراهم وبيوتهم إلى فضاء الغربة والتيه، فمن الصعب أيضا قبول أى جهود يمكن أن تؤدى إلى تقسيم سوريا أو السماح لعدة آلاف من المسلحين من جنسيات مختلفة مدعومين من قبل قوى إقليمية ودولية بالبقاء فى سوريا وكأنهم أصحابها الحقيقيون ويحددون مصيرها بدون وجه. مثل هذه الصعوبات أو لنقل التعقيدات والتشابكات العملية تجعل الحكم على اتفاق المناطق الآمنة أو مناطق تخفيف التوتر الأربع التى وقعتها دول روسيا وتركيا وإيران، تجعل الحكم سلبا أو إيجابا مسألة فى غاية الارتباك، لاسيما وأن الدول الضامنة لديها قوات على الأرض السورية ولها سطوة على أطراف الصراع، باعتبارها الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار المُعلن نهاية ديسمبر العام الماضى، وهو الاتفاق المغدور من الجميع بلا استثناء.
فمن جانب يبدو الاتفاق الثلاثى المُعلن فى ٤ مايو الجارى مهتما بالحفاظ على حياة الملايين من البشر بمن فيهم المسلحين فى مناطق محددة سواء كانوا سوريين أو مرتزقة من جنسيات مختلفة، والسماح لهم بالمعونات الإنسانية التى حُرموا منها طويلا وبالحصول على قدر من الأمن والقدرة الطبيعية على الانتقال من مكان إلى آخر آمنين من الخضوع لسطوة المسلحين أو قنابلهم أو قذائفهم العمياء، كذلك آمنين من قصف الجيش السورى لمواقع المعارضين المُسلحين ومجموعات الإرهابيين، وبهذا المعنى فهناك شئ إيجابى من الصعوبة إنكاره وعدم الاعتداد به. لكن الصورة ليست هكذا أحادية الجانب، فهى متعددة الزوايا والأبعاد ولكل منها قصة وتأثير ونتيجة أخرى.
مناطق آمنة .. ولكن!
ووفقا للمعلومات التى أعلنها الجيش الروسى والخارجية التركية، يتضمن اتفاق الأستانة إقامة أربع مناطق يتم فيها وقف كافة أشكال الصدامات المسلحة بما فيها استخدام الطيران الحربى سواء من الجيش السورى أو القوات الجوية الروسية أو قوات التحالف التى تقودها الولايات المتحدة، ولا تشمل المذكرة محافظتي دير الزور والرقة التي يتواجد فيهما تنظيم داعش وجبهة النصرة التابعة للقاعدة، فهذه المناطق مسموح فيها القتال ضد هذين التنظيمين الإرهابيين. وقد بدأ العمل بالمذكرة فور توقيعها فى ٤ مايو، ولمدة ستة أشهر على أن يتم تمديدها بموافقة الأطراف الضامنة، وسيتولى الخبراء العسكريون رسم حدود المناطق الأربع بشكل أولي، اعتبارا من ٦ مايو/أيار الجاري، على أن تعلن هذه الخرائط رسميا بحلول ٤ يونيه المقبل، وبعد أن يتم فصل فصائل المعارضة المسلحة المعترف بها كمعارضة معتدلة عن تنظيمي «داعش» و»النصرة» الإرهابييْن، وأن يتم ضمان الوصول الإنساني السريع والآمن، دون أي عوائق، وتوفير الظروف لعودة اللاجئين والنازحين بشكل آمن وطوعي. وتضم هذه المناطق ريف إدلب، وأجزاء من أرياف اللاذقية وحلب وحماة، وأجزاء معينة في ريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية بريف دمشق، وأجزاء معينة بجنوب سوريا في ريفي درعا والقنيطرة، على أن تُقام مناطق آمنة عند حدود مناطق وقف التصعيد لمنع أية مواجهة عسكرية بين الأطراف المتنازعة، وضمان التنقل الحر للمدنيين غير المسلحين ووصول المساعدات الإنسانية ودعم الأنشطة الاقتصادية، بالإضافة إلى نقاط للرقابة على الالتزام بشروط وقف إطلاق النار.
جدير بالذكر، أن محافظة إدلب وما حولها هى أكبر المناطق من حيث المساحة التى تخضع للاتفاق، ويسيطر عليها تحالف فصائل مسلحة، بينها جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا). كما تسيطر الفصائل المسلحة على مناطق في ريف اللاذقية الشمالي وريف حماة الشمالي والقسم الأكبر من ريف حلب الغربي وأجزاء من ريفها الشمالي، وجميع تلك المحافظات محاذية لإدلب. أما الغوطة الشرقية، فتُعد معقل الفصائل المعارضة وخاصة “جيش الإسلام” و»فيلق الرحمن» قرب دمشق، وكلاهما يُقاتلان بعضهما البعض بين الحين والآخر، ويتناوبان التحالف مع جبهة النصرة التابعة للقاعدة تحت مسمى جبهة تحرير الشام. وفى آخر المواجهات العسكرية بينهما قبل إعلان الاتفاق الثلاثى بيومين سقط لهما أكثر من ١٧٠ ضحية، وتم تبرير القتال بأنه دفاع عن النفس، وبما يعكس سعى كل فصيل فى الاستحواذ على مناطق يُعدها الطرف الآخر من مناطقه الخاضعة لسيطرته وممنوعة على الطرف الآخر، وكلاهما عضوان فى الهيئة العليا للمفاوضات أو منصة الرياض. ورغم خسارة هذه المجموعات المسلحة لمساحات جغرافية واسعة من الغوطة لصالح الجيش العربى السورى، فما زالت تسيطر على المدن الأساسية ومنها دوما وعربين وحرستا.
أما المنطقة الرابعة المقترحة منخفضة التوتر فهى أجزاء من جنوب سوريا، فى محافظتي درعا والقنيطرة، حيث تتواجد فيهما المجموعات المسلحة، كما تتواجد مجموعة صغيرة موالية لتنظيم داعش في أجزاء صغيرة من المحافظتين. وحسب تقديرات الجيش الروسى فإن عدد المسلحين المنتمين لهذه الفصائل المعارضة فى المناطق الأربع يصلون إلى ٤٢.٥ ألف مُسلح، نسبة كبيرة منهم يحملون جنسيات مختلفة. ويصل عدد السكان فيها الى حوالى مليونى نسمة.
المصدر: الجيش الروسى
ووفقا للاتفاق الثلاثى؛ على الدول الضامنة إقامة الحواجز ونقاط المراقبة، وإدارة المناطق الآمنة اعتمادا على قدراتها وعلى أساس التوافق. وفى خلال أسبوعين سيُشكل فريق عمل لترسيم حدود المناطق الأربع وتسوية المشكلات الفنية واللوجستية، ومواصلة الجهود لضم فصائل المعارضة للاتفاق وضمان وقف إطلاق النار، وفى الآن نفسه التزام هذه الدول بالاستمرار فى محاربة تنظيمى «داعش» و»جبهة النصرة» والشخصيات والجماعات المرتبطة بـ»القاعدة» أو «داعش» داخل وخارج مناطق وقف التصعيد.ومما يلفت النظر قول نائب وزير الدفاع بأنه تم العمل مع القيادة السورية وقادة فصائل المعارضة المسلحة لإقناعهم بضرورة اتخاذ إجراءات عملية لنزع فتيل تصعيد النزاع،وأنه تم تنسيق نص المذكرة مع ٢٧ من قادة الفصائل المسلحة المتواجدة في مناطق وقف التصعيد.
غياب أطراف مؤثرة
ومن جهة ثانية؛ ورغم أن موسكو ألمحت لاحقا بأنها تبحث وجود مراقبين من دول أخرى لضمان تنفيذ الاتفاقية ووقف إطلاق النار، وأن الحكومة السورية كانت تعلم تفاصيل الاتفاق وأنها رحبت به، فبالنظر إلى هذه البنود وطريقة إخراج الوثيقة يتضح أن الاتفاق لا يشمل كل الأطراف، بل هو مُقتصر على الدول الثلاث الضامنة لوقف إطلاق النار، مسُتبعدا الطرفيْن الرئيسييْن وهما حكومة البلاد وما يُعرف بالمعارضة السورية المعتدلة ورمزها الأكبر المسمى إعلاميا بمنصة الرياض والتى تتكون من ١٦ فصيلا مسلحا ورموز سياسية سورية، إضافة إلى منصتى القاهرة وموسكو. وهو ما يجعل هذه الأطراف بشكل أو بآخر غير معنية بالاتفاق وغير مُلزمة به، وتلك بدورها نقطة ضعف كبيرة.
ومهما يُقال على أن الدول الثلاث الضامنة تعبر عن إرادة الأطراف المحلية باعتبار أنها – أى القوى الضامنة – قد حصلت على تأييد الأطراف المحلية التى تدعمها وتقف وراءها وبالتالى تنتظر منها الالتزام بالاتفاق عن ظهر قلب، فإن الواقع يقول إن الأمور لا تسير على هذا النحو فى كل الأوقات. وهنا نلاحظ مثلا أن منصة الرياض، والتى شارك وفدها فى اجتماعات الأستانة ٤ التى خرج منها اتفاق المناطق الآمنة، فإنها ترفض الاتفاق ولم توقع عليه وتعتبره يصب فى تقسيم سوريا، ويضيف تعقيدات للمفاوضات السياسية التى تجرى فى جنيف والمقرر أن يُعقد اجتماعها السادس فى يونيه المقبل، وذلك فى الوقت الذى ذكرت فيه الخارجية الروسية أن كلا من الولايات المتحدة والسعودية رحبتا بالاتفاق، وهما الضامنان والمؤيدان الأكبر لمنصة الرياض سياسيا وعسكريا.
والمرجح أن تُبذل ضغوط على منصة الرياض أو الهيئة العليا للمفاوضات لكى تقبل الاتفاق وأن تشارك فى تطبيقه، بينما تختلف الظروف على الأرض تماما، خاصة وأن موقف هذا الفريق المعارض كان يتجه أساسا إلى تعميق وتثبيت وقف إطلاق النار المعلن فى نهاية ديسمبر ٢٠١٦ على أن يطبق فى عموم سوريا، ووضع آلية لمعالجة الخروقات التى تحدث من الجيش السورى حسب وصفه فى المذكرة التى قدمها وفد الهيئة إلى اجتماعات الاستانة ٤. ومعروف أنه لم يتم التوصل إلى آلية لمحاسبة الجهات التى يثبت عليها انتهاك وقف إطلاق النار، الأمر الذى أضعفه فعليا.
ومن سخرية القدر أن طالبت مذكرة الهيئة آنفة الذكر بأن تنسحب قوات الجيش السورى من المناطق التى سيطر عليها فى حلب وفى غيرها وأخرج منها فصائل المعارضة بعد إعلان وقف إطلاق النار خاصة جيش سوريا الحر، ولكن وفد الهيئة بدلا من ذلك فوجئ باتفاق المناطق الآمنة الأربع التى صاغته روسيا بالتنسيق المباشر مع تركيا، ومن ثم لم يوقع الوفد على الاتفاق، ومعترضا على كون إيران بلدا ضامنا مثل تركيا وروسيا، لأنها جزء من الأزمة وليست جزءا من الحل.
الأكراد أيضا من المعترضين على الاتفاقية، وكما قال الناطق باسم الحزب الديمقراطى الكردى وهو الذراع السياسية لقوات سوريا الديمقراطية المُشكلة من غالبية كردية ونسبة من المقاتلين العرب السنة، فإن خطة المناطق الأربع منخفضة التوتر ترقى إلى حد «تقسيم سورية على أساس طائفي»،ومن ثم فهى جريمة فضلا عن كونها تهدد المناطق الشمالية الخاضعة للأكراد وتحظى بحكم ذاتى بفعل الأمر الواقع منذ تدهور الأمور فى سوريا فى العام ٢٠١١.
مثل هذه الاعتراضات ومن أطراف ذات شأن على الأرض، يضيف عقبة أخرى أمام تطبيق الاتفاق، وبالتالى يتأكد أن الاتفاق قد يدفع نحو مصير مؤلم لسوريا إن لم يتم ربط مثل هذه العمليات لوقف إطلاق النار وتهدئة الصراع العسكرى بعملية سلمية جادة تلتزم بها كافة الأطراف تحت مظلة قرارات الأمم المتحدة لاسيما القرار ٢٢٥٤ بعد أن تتقارب التفسيرات المتناقضة التى ما زالت مسيطرة حتى اللحظة على مفاوضات جنيف. ومن هنا أهمية البحث عن حقيقة الموقف الأمريكى تجاه هذا الاتفاق لاسيما تطبيقه على الأرض.
غموض الموقف الأمريكى
بداية ما زال الموقف الأمريكى تجاه العديد من القضايا العالمية والإقليمية غامضا وغير مُحدد المعالم، وخلال المائة يوم الأولى لإدارة الرئيس ترامب يبدو صعبا على المراقبين تحديد ماذا تريد هذه الإدارة وكيف تتعامل مع الأزمات المختلفة، ومن بينها الأزمة السورية. وبالرغم من أن المشاركة الأمريكية فى جولات جنيف الخمس السابقة كانت معروفة ومشهودة ولكنها لم تكن ذات تأثير، مما أتاح المجال واسعا أمام التأثير الروسى ولكن بدون تحقيق اختراقات كبرى. ومعروف أن اتفاق وقف إطلاق النار فى نهاية ديسمبر ٢٠١٦ كان نتيجة تفاهمات روسية أمريكية فى أواخر أيام الرئيس السابق أوباما. وفى مباحثات الأستانة بين قادة الفصائل العسكرية، كانت هناك مشاركة أمريكية ولكنها لم تتدخل فى عمق القضايا المطروحة، ولذا اقتصر الأمر على أفكار روسية ومخرجات ثلاثية روسية تركية إيرانية، وهو ما انتهى إلى اتفاق المناطق الأربع منخفضة التوتر، وهى التى تحمل فى جوهرها فكرة سبق للرئيس ترامب أن طرحها فى حملته الانتخابية بصيغة عامة، معتبرا أن تشكيل مناطق حظر جوى فى سوريا من شأنه أن توفر ملاذا آمنا للسوريين وبما يحول دون هجرتهم إلى خارج بلدهم بعد أن يأمنوا ضربات الجيش السورى.
ومن حيث الجوهر تكاد تتوافق فكرة المناطق الأربع الآمنة مع ما طرحه الرئيس ترامب مسبقا، ولكنها ليست نتاج قرار دولى صادر عن الأمم المتحدة. ورغم أن الولايات المتحدة ليست موقعة على الاتفاق، فإنها لن تكون قادرة على استخدام طيرانها كقائد للتحالف الدولى ضد داعش فى المناطق المذكورة فى الاتفاق حسب ما أوضحه رئيس الوفد الروسى فى مفاوضات الأستانة وأكده متحدث باسم الجيش الروسى. وهو أمر لم يعلق عليه البيت الأبيض، وكل ما كشفته وزارة الخارجية الأمريكية هو التعبير عن القلق من الاتفاق، وشكوكها فى أن مشاركة إيران كضامن للاتفاق قد تدفع الى حُسن تطبيقه. وهو شك يعنى رفض الدور الإيرانى والذى تنظر إليه واشنطن كأحد أسباب العنف فى سوريا، الأمر الذى يجعل قبول أمريكا المشاركة فى تنفيذ الاتفاق أمرا بعيد المنال. ومن المنتظر أن تكون هذه القضية محل بحث عميق بين وزيرى الخارجية الأمريكية والروسية حين يلتقيان فى العاشر والحادى عشر من مايو الجارى، تمهيدا للقاء بين الرئيسين بوتين وترامب لاحقا.