قيمة حضور مجالس الكبار
والمقصود من هذه القيمة هو العمل على تنمية الفكر واكتساب الخبرات مبكرًا لدى الأطفال؛ مما يؤثر في تشكيل عقليتهم وقدرتهم الفكرية بوعي وعمق، فيستطيع الطفل فيما بعد أن يضع الأمور في نصابها الصحيحة، وأن يُقَدّر الأمور حق قدرها، وأن يكون لديه عقل واع يستطيع به مواجهة تحديات الحياة ومتطلباتها؛ نتيجة لما اكتسبه من خبرات واقعية من مجالسته للكبار، مع اعتبار التزام الآداب المتعلقة بهيئة وكيفية الجلوس من حيث حسن تصرف الطفل وتقويم سلوكه .
فحضور مجالس الكبار يجعل الطفل منذ تكوين النضج العقلي له يقف على تجارب وخبرات السابقين، تجعله يقف على حسن تصرفهم مع الأزمات وإدارتها، تجعله يهضم تفكيرهم من حيث تقديمهم الاقتراحات للمستقبل، وكذلك تجعله يكتسب ما يراه ويسمعه من أخلاقهم فيما بينهم؛ مما يجعل الأمر بمثابة الإرث الذي ينبغي أن تكون عليه الأجيال المتعاقبة، الذين هم على الحقيقة همزة الوصل التي تنقل تلك الأخلاق للأجيال السابقة – التي انعدم بعضها الآن – إلى الأجيال القادمة .
فكل طفل ينبغي أن يفهم ذلك، وأنه همزة الوصل بين الماضي والحاضر في نقل هويّة وثقافة وحضارة أجيال إلى أجيال أخرى متلاحقة، فيتحقق التدافع بين الأجيال ويتم تكوين أدوات فاعلة لبناء الأمة ( ثقافيًّا وحضاريًّا وعلميًّا وفكريًّا .... وهكذا) .
ففي حضور مجالس الكبار قطع لمسافات بعيدة لاكتساب الخبرات والأخلاق الحيّة الواقعيّة التي تساعد فيما بعد على فهم أبعاد الحياة ومواجهة أعبائها ووضع الحلول لمشكلاتها؛ حتى يستقيم العيش فيها .
ومن هنا ننشأ الطفل منذ صغره وقد تحنّك وتمرّس بالخبرة من صغره .
وهذا هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الذي يحكي لنا عن بعض مجالسه في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، كيف أنه تعلم من هذه المجالس واكتسب من الخبرات ما جعله مؤهلاً أن يكون من المفكرين الذين يحسنون التأمل والنظر، إلا أنه مع ذلك لم يتكلم احترامًا لكبار الصحابة، فلنسمع إليه وما هو رد والده عليه رضي الله عنهما، فيقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أَخبِرونِي بِشَجرةٍ مَثَلُها مَثلُ المُسلم تُؤتِي أُكلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذنِ رَبِهَا، لا تَحُتُّ وَرَقَها،) فَوقَع فِي نَفسي النَّخَلةُ، فَكرِهتُ أنْ أَتكلَّم، وثَمَّ أَبو بَكرٍ وعمر رضي الله عَنهُما، فَلمَّا لَم يَتكلَما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هِيَ النَّخلَةُ ) فَلما خَرجتُ مَع أَبي قُلتُ يَا أبتِ وَقَع فِي نَفسي النَّخلةُ، قَال مَا مَنعكَ أنْ تَقُولَها ؟ لَو كُنتَ قُلتَها كَان أَحبَ إليَّ مِن كَذا وكَذا، قال : مَا مَنَعني إلا لَم أَرك ولا أبا بكر تَكلمتُمَا فَكرِهتُ.
وهذا هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، بالرغم من صغر سنه إلا أنه كان يحسن التفكير بل والتفسير لآيات الله عز وجل، فلما كان دائم الجلوس في مجالس الكبار، رأى بعض الصحابة استثقال ذلك، وحدّثوا عمرَ بن الخطاب في ذلك، فجمعهم عمر؛ ليضرب لهم نموذجًا عمليًّا بحسن فهم هذا الصغير (عبد الله بن عباس)، وتلى عليهم آيات سورة النصر : " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا " [النصر : 1-3]، ثم سألهم عن رأيهم في المراد منها، فتكلم كل منهم بما رأى وفهم، ثم سأل عمرُ بن الخطاب عبداللهَ بن عباس : ماذا ترى فيها ؟ فقال: ما أرى إلا أنها دلالة على منتهى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال عمر: وهو ما أرى
فإذا علمنا هذا مع كون عمر بن الخطاب ملهمًا؛ لأنه كانت تنزل الآيات موافقة لرأي عمر، يؤكد على ما فهمه عبد الله بن عباس، فهذا يؤكد على رؤية عمر بن الخطاب الثاقبة في ثمرة مجالسة ابن عباس في مجالس كبار الصحابة، وأنها بمثابة تقديم الخبرات للصغار، فينتفع الطفل بما يكون في تلك المجالس، فتتشكل عقليتُه وشخصيتُه منذ الصغر بالوعي والنضج .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كان يُحدث عن حضوره مجالس الكبار وهو غلام فيقول: "شهدت وأنا غلام حلفًا مع عمومتي المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه" .
وهذا هو سفيان بن عيينة -رحمه الله- يلقي درساً لأصحابه، فدخل صبي صغير ومعه ورق وقلم ومحبرة، فبمجرد أن دخل الصغير وكلهم طلبة كبار -تلاميذ سفيان بن عيينة - فمجرد أن ضحكوا فتلا سفيان : { كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } [النساء:94]، ثم التفت إلى أحمد بن نضر راوي الحكاية عن أبيه قال: يا نضر لو رأيتني وطُولِي خَمْسَةُ أَشْبَارٍ، وَوَجْهِي كَالدِّينَارِ، وَأَنَا كَشُعْلَةِ نَارٍ، ثِيَابِي صِغَارٌ، وَأَكْمَامِي قِصَارٌ، وَذَيْلِي بِمِقْدَارٍ، وَنَعْلِي كَآذَانِ الْفَارِ، أَخْتَلِفُ إِلَى عُلَمَاءِ الأَمْصَارِ، مِثْلَ الزُّهْرِيِّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارِ، أَجْلِسُ بَيْنَهُمْ كَالْمِسْمَارِ، مِحْبَرَتِي كَالْجَوْزَةِ، وَمِقْلَمَتِي كَالْمَوْزَةِ، وَقَلَمِي كَاللَّوْزَةِ، فَإِذَا دَخَلْتُ الْمَجْلِسَ قَالُوا: أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ الصَّغِيرِ، أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ الصَّغِيرِ، قَالَ: ثُمَّ تَبَسَّمَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَضَحِكَ، قَالَ أَحْمَدُ وَتَبَسَّمَ أَبِي وَضَحِكَ، قَالَ عَمَّارٌ وَتَبَسَّمَ أَحْمَدُ وَضَحِكَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السَّلاَمِيُّ وَتَبَسَّمَ عَمَّارٌ وَضَحِكَ، قَالَ الْقَاضِي: وَتَبَسَّمَ السَّلاَمِيُّ وَضَحِكَ، وَتَبَسَّمَ أَبُو الْعَلاَءِ وَضَحِكَ، وَتَبَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ وَضَحِكَ ( ).
وهذا هو الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله كان يأخذه أباه إلى مجالس الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري، وهو ابن ثلاث سنين، وكان السيوطي يفتخر جداً بأن عمر ابنه كان ثلاث سنين، وجالس في مجلس الحافظ ابن حجر
فحضور الطفل إذن لمجالس الكبار تعلّمه كيف يستقبل ويكرم الضيف؟ كيف يحسن التصرف في حضوره ؟ كيف يؤدي ما عليه وفق ما يُطلب منه؟ متى يسمع؟ متى يتكلم ؟ متي يسأل ؟ يتعلم التوجيه . يتعلم التأني . يتعلم من قصص الآباء والأجداد الخبرات التي يستعين بها على فهم الحياة ومواجهة صعابها، فتتوسع مداركه لأجل ذلك.
ومن هنا يأتي الفرق بين من يجلس في مجالس الكبار، وبين من يجلس مع القرناء في مجالس السوء، ففرق واسع في تشكيل عقلية كل منهما .
فالشريعة الإسلامية إذن ركّزت على بناء الطفل بناءً اجتماعياً، بحيث يستطيع التكيف مع الكبار والصغار ونحو ذلك، ولا يكون ذلك إلا إذا اصطحبه والده معه إلى مجالس الكبار .
وهذا ما ينبغي أن نؤسس الأجيال عليه قدر المستطاع .