جذبت مدينة الإسكندرية قديمًا علماء المسلمين من شتى بقاع الأرض، الذين كانوا يمرون بها خلال رحلتهم إلى الحجاز، وعند العودة منهم من يشد الرحال إلى بلاده، ومنهم من يستقر فيها، ومن هؤلاء الفقيه أبو بكر الطرطوشي، الذي تحتضن الإسكندرية ضريحا ومسجدًا يحمل اسمه في منطقة الباب الأخضر، يصفه الإمام جلال الدين السيوطي في إحدى رسائله بأنه كان مسجدًا ومدرسة لتعليم الفقه والعلوم الشرعية.
يقول الدكتور إسلام عاصم، أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر، نقيب المرشدين السياحيين السابق بالإسكندرية إن: مسجد أبو بكر الطرطوشي يحظى بقيمة تاريخية كبيرة، أهلته ليكون أحد أشهر المساجد الأثرية في الثغر، مبينًا أن أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف المعروف بأبو بكر الطرطوشي هو فقيه مالكي، وُلد عام 451 هجريًا في مدينة طرطوشة بمنطقة كتالونيا في إسبانيا، وتتلمذ على يد أبي الوليد الناجي، وقد زار مدن كثيرة في العالم الإسلامي، ومنها مكة وبغداد والبصرة والشام وبيت المقدس.
وصل إلى مدينة الإسكندرية في عام 495 هجريًا، تزوج بسيدة ثرية من الإسكندرية أهدته بيتًا، فأقام في الطابق العلوي، وجعل من الطابق الأسفل مدرسة لتلقين العلوم الشرعية والفقهية، وتُوفي بها سنة 520 هجريًا، أي قضى بها ما يقرب من ثلاثين سنة، ولم يكن يغادرها إلا إلى القاهرة.
دفن في منطقة كوم الناضورة التي كانت تُعرف بـ"كوم وعلة" في شارع الباب الأخضر، والتي كان يُدفن فيها أغلب التابعين، وبُني فوق قبره مسجد صغير، وبأمر من والدة الخديوي توفيق قام السيد إبراهيم مورو سنة 1270 هجريًا بتوسعة المسجد وترميمه.
وأشار "عاصم" إلى أن الطرطوشي وصل إلى الإسكندرية في فترة صعبة خلال حكم الفاطميين الذين كانوا يتبعون المذهب الشيعي، في حين كان الطرطوشي يتبع المذهب السُني المالكي، ويُذكر أنه عندما جاء الطرطوشي إلى الإسكندرية، كان هناك فتنة ونزاع على الحكم بين أحمد المستعلى بالله وأخيه نزار المصطفى لدين الله، أبناء الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وجاء نزار إلى الإسكندرية واحتمى بأهلها، وبتدخل الوزير الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن بدر الدين الجمالي استقر النزاع لصالح المستعلى بالله، وفي ذلك الوقت كان معظم الأئمة على المذهب المالكي قد قُتلوا، ولم يكن يجرؤ أحد على الحديث في ذلك الأمر، في حين تحدى الطرطوشي الجميع بمذهبه السُني.
وبمرور الوقت استطاع الطرطوشي أن يتقرب من الوزير الأفضل، فذاع صيته وأصبح له مريدين وكان يتوافد الكثيرون إلى الإسكندرية للتعلم على يديه، مما أثار غيرة وحقد قاضي المدينة في ذلك الوقت، فترصد له الأخطاء، ومنها أنه أصدر كتاب حرم فيه تناول الجبن القادم من بلاد الروم، نظرًا لأنه في ذلك الوقت كان العالم الإسلامي مازال يعاني من آثار الحروب الصليبية ولخلافه مع الغرب، وهو ما يمكن اعتباره الآن "مقاطعة"، فأوغر صدر الوزير الأفضل ضد الطرطوشي، فأمر بتحديد إقامته في منطقة الفسطاط بالقاهرة ومنعه من التواصل مع الناس، حتى قُتل شاهنشاه، ثم جاء الوزير مأمون البطائحي فأفرج عنه، وعاد إلى الإسكندرية.
ولفت "عاصم" إلى أن الطرطوشي كان زاهدًا وفقيهًا وواحد من أشهر علماء المالكية، علّم الفقه والعلوم الشرعية في وقتًا عصيبًا كان فيه الحكام يتبعون المذهب الشيعي، وله مؤلفات عديدة، منها مختصر تفسير الثعالبي، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف، وشرح لرسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني، وكتاب الأسرار، ونقد إحياء علوم الدين للغزالي، والحوادث والبدع، وكتاب الفتن، وأهمها كتاب سراج الملوك الذي أكمل تأليفه بعد الإفراج عنه وعودته للإسكندرية وأهداه فك الحصار للوزير البطائحي.
وتابع: "يجب أن نستغل شهرة الطرطوشي ومكانته العلمية في الترويج للسياحة القادمة من إسبانيا مسقط رأسه"