الثلاثاء 14 مايو 2024

ننشر رائعة جابريال جارثيا ماركيز "لودوفيشيو"

المترجم: حسام أبو سعدة

ثقافة13-6-2021 | 12:29

ترجمة: حسام أبو سعدة

دخلنا مدينة "أزيرو" قُبيل الظهر بقليل من يوم الأحد فى بداية شهر أغسطس الحارق الصاخب. لم يكن من السهل أبدًا العثور على شخص يرشدك فى هذه الشوارع المكتظة بالسائحين، فأمضينا أكثر من ساعتين فى البحث عن القصر العتيق الذى اشتراه الكاتب الفنزويلى "ميجال أوتيرو سيلفا" فى هذا المكان الرومانسى من الريف التوسكانى الشهير بالقناطر.

بعد محاولات كثيرة فاشلة، استقلينا السيارة تاركين المدينة إلى طريق محفوف بأشجار السرو، خال من أى لوحات إرشادية. سألنا امرأة عجوز تبيع الأوز، فوصفت لنا الطريق بكل دقة. قبل أن نودعها سألتنا إن كنا ننوى قضاء الليل هناك، فأجبناها أننا لا نتوقع إلا تناول الغذاء فقط، فقالت محذرة:

ـ انتبهوا... لأن القصر مسكون بالأرواح؟...

أنا و زوجتى لا نعتقد فى مثل هذه الخرافات، فسخرنا من سذاجتها، لكن طفلينا اللذين كانا  فى التاسعة و السابعة من العمر لم يستطيعا كتمان فرحتهما  لأنهما سيتعرفان على الشبح عن قرب لأول مرة فى حياتهما.

"ميجال أوتيرو سيلفا" أحد الكتاب الموهوبين، مضياف ودود، ذواقة للطعام، لذلك انتظرنا غداءً شهيًا. لأننا تأخرنا كثيرًا لم يكن لدينا الوقت الكافى للتجول فى القصر قبل الغذاء، لكن منظره من الخارج  ليس مخيفًا. تبدد قلقنا تمامًا عندما ترأت لنا المدينة بأكملها من الشرفة المليئة بالزهور حيث نجلس. كان من الصعب تصديق وجود عبقرى واحد فقط فى هذه البيوت الملاصقة للتل حيث يعيش حوالى ثمانون ألف شخص، لكن "ميجال" يؤكد وجود هذا العبقرى بقوله:

- الأعظم هنا هو "لودوفيشيو".

"لودوفيشو" فقط  بدون ألقاب، أستاذ كبير فى الفنون و الحرب، إنه هو الذى شيد هذا القصر لشقائه.

حدثنا "ميجال" عن قدراته الضخمة، عن حبه  المدمر العاصف، و عن موته الرهيب، حكى لنا كيف فى لحظة جنون عاطفى طعن زوجته على الفراش الذى كانا يمارسان عليه الحب منذ لحظات، ثم أثار على نفسه كلابه المتوحشة الشرسة  حتى مزقته بأنيابها الحادة، كما أكد لنا بكل حزم و جدية أنه ابتداء من منتصف الليل تظهر روح "لودوفيشيو" فى المنزل الغارق فى الظلام  كأنه يحاول إيجاد السلام فى حبه الطاهر.

اعتبرنا حديث "ميجال" أحد  دعاباته الكثيرة التى يروح بها عن نفوس مدعوويه.

بعد القيلولة تجولنا فى القصر المكون من اثنتين و ثمانين حجرة. الحجرات تعانى من جميع أنواع التغيرات بسبب الملاك المتتابعين الكثيرين للقصر. أما "ميجال" فقد جدد الطابق الأرضى فقط. جهز لاستخدامه الشخصى حجرة  حديثة افترشها بالرخام، حمام بخار، صالة تربية بدنية، و الشرفة المفعمة بالورود حيث تناولنا الغذاء. أما الطابق العلوى فإنه مجرد تتابع للحجرات دون أى طابع مميز، مفروشة بمفروشات من مختلف العصور السابقة. الحجرة الأخيرة حجرة نوم كاملة تمامًا، كأن الزمن قد توقف فى هذه الحجرة. كانت حجرة "لودوفيشيو".كانت لحظة ساحرة. الفراش معرش مغطى بالستائر المشغولة بخيوط مذهبة، غطاء الفراش أعجوبة فى الزركشة و النقش و قد تجمد عليه دم العشيقة الضحية، توجد فى أحد الأركان مدخنة تحجر بها رماد حطب، فى الصوان أسلحة "لودفيشيو" مصطفة كعتاد جندى قديم، فى إطار ذهبى ملامح زيتية لفارس من القرون الوسطى فى عينيه ثبات وثقة و تأمل حزين... لكن ما أثارنى رائحة حبات الكراز الطازجة كأنها قد قُطفت الآن... لم أجد تفسيرًا معقولًا لانتشار هذه الرائحة فى الحجرة.

فى "توسكان" أيام الصيف طويلة مرهقة، الشمس لا تغرب حتى الساعة التاسعة مساءً. انتهت جولتنا فى القصر ثم صحبنا "ميجال" لنرى الرسم الجدارى لـ "بيارو ديللا فرنسيسكا" فى كنيسة "سان فرانسيسكو"،  ثم جلسنا تحت إحدى تعريشات الورود نرتشف القهوة. عندما هممنا بحمل حقائبنا فوجئنا بأن المفارش قد فُرشت و أُعد العشاء. فأكلنا تحت سماء سوداء تتزين بنجمة واحدة فقط.. ثم ذهب الطفلان إلى المطبخ يبحثان عن المصباح و انطلقا يستكشفان ظلمات الطابق العلوى. سمعنا وقع خطواتهما الذى يشبه وقع الخيول الشرسة على السلالم، نواح الأبواب، و صرخات الابتهاج و هم يناديان على "لودفيشيو"فى الحجرات المعتمة.

اقترح الطفلان البيات هنا، و سعد "ميجال" كثيرًا بهذا الاقتراح، فعجزنا عن الرفض.

على العكس المتوقع نمت جيدًا أنا و زوجتى فى حجرة بالطابق الأرضى بينما  بات طفلينا فى  الحجرة المجاورة. عندما كنت أبحث عن النوم فى بداية الليل سمعت الاثنتى عشرة دقة للساعة الضخمة الموجودة فى الصالون. تذكرت فجأة الإنذار الرهيب للعجوز بائعة الاوز. لكننا كنا متعبين جدًا حتى أننا نمنا بسرعة نومًا ثقيلًا. استيقظت بعد سبع ساعات، كانت الشمس تضىء النافذة فى لطف، بجانبى زوجتى تبحر فى بحر هادئ من البراءة قالت:          

ـ يا للعجب فى أن يكون هناك أناس حتى اليوم يعتقدون فى وجود الأشباح.

عندئذ شممت رائحة كراز طازج مقطوف حديثًا، ارتجفت...

  رأيت المدخنة أمامى، الرماد البارد، آخر قطعة حطب متحجرة، و الرجل الذكى يتأملنا بنظراته الحزينة منذ ثلاثة قرون مضت من خلال إطاره الذهبى.

 لم نكن فى تلك الحجرة بالطابق الأسفل التى أوينا إليها بالأمس. لكن فى حجرة "لودوفيشيو"، فوقنا الستائر المغبرة، تحتنا الملاءات المخضبة بالدماء الدافئة؟...

Dr.Radwa
Egypt Air