لم يكن هناك ما يمكن اعتباره مدعاة للدهشة، فى إصدار «حركة المقاومة الإسلامية، حماس» لما اعتبرتها الحركة «وثيقة سياسية»، الكثيرون ترقبوا زلزالا بما روجته التسريبات أنها ستشمل خروجا من تحت عباءة «الإخوان المسلمين». والأكثر انحيازا للتفاؤل كان ينتظر وثيقة “تطهر” من آثام التورط فى معادلات الخطأ بحق الأمن المصرى.
فى الوقت الذى كانت فيه الحركة الفلسطينية التى عاشت منذ نشأتها ١٩٨٨م فى كنف المؤمرات واللعب على حبال التوازنات، ولم تخلف موعدا كونها «حركة وظيفية» يشوب الغموض الكثير من تفاصيل تكوينها، للدرجة التى ألصقها البعض بالاستخبارات الإسرائيلية بالنظر إلى ما انتهجته لاحقا من استهداف «منظمة التحرير الفلسطينية»، حيث كانت المنظمة حينذاك غارقة فى تكوين وصياغة التمثيل الشرعى للشعب الفلسطيني.
ولم يكن لإسرائيل حينها هدفا أثمن من شق هذا الجدار الذى يتم تشييده فلسطينيا بمعرفة الزعيم ياسر عرفات ورجال فتح، والسيناريو الذى جرت وقائعه منذ تاريخ التأسيس وصولا إلى الانقلاب العسكرى الذى قامت به حماس ٢٠٠٧م، واستأثرت على أثره بحكم «قطاع غزة» وقامت بهدم «السلطة الفلسطينية» وطرد عناصرها من مدن ومنشآت الحكم الفلسطيني، هذا السيناريو بمحطاته المتتابعة هو ما يضع الانحياز لكون إسرائيل هى الفاعل الرئيسى فى تشكيل حماس على وضعها الذى خرجت به إلى المشهد الفلسطيني، وهى الحامية لهذا التواجد بتلك الصيغة الذى حققت به هدف الشق الفلسطينى الغائر.
إزاحة الدهشة جانبا بما يمكن أن تحويه من فرح أو غضب، هو ما وجدته صيغة أكثر ملاءمة بعد مطالعة «وثيقة» حماس واستعراض كافة بنودها، فالحركة لازالت مخلصة لأطروحاتها التى فطمت عليها، ولم تخل من براجماتية اكتسبتها الحركة بمرور الزمن والأحداث عليها.
لو بدأنا مع المرتبة الأهم فيها وهو ما يتعلق بموقفها من لب القضية الفلسطينية وموقفها من إسرائيل، هى ليست المرة الأولى التى تعلن فيه الحركة موافقتها على «حدود ٤ يونيو ١٩٦٧» كحل يفضى لدولتين، فقد سبق لمؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين أن بدأ يقترح من ١٩٩٧م هدنة طويلة مقابل دولة فلسطينية على الحدود المذكورة. وظل يكرر هذا الطرح حتى اغتياله عام ٢٠٠٤م، وبعد انتخاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى ٢٠٠٨م أعاد رئيس المكتب السياسى للحركة خالد مشعل، التأكيد على قبول الحركة بهذا التصور وظل طوال فترتى رئاسة أوباما يبعث بالرسائل للبيت الأبيض من أجل فتح الأبواب التى ظلت موصدة فقط لانشغالها بقضايا المنطقة الأخرى. الحركة اليوم تعلم جيدا أن هناك رئاسة جديدة بالبيت الأبيض يصاحبها توجه جديد، ولذلك قد يكون مهما لها هى الأخرى أن تقدم وجها جديدا «إسماعيل هنية، رئيسا للمكتب السياسى للحركة»، يصاحبه طرحا تجميليا ليس أكثر فربما ينال رضا وضع القضية الفلسطينية على جدول الأعمال الأمريكي، حينها تكون الحركة جاهزة لأن تقدم نفسها بديلا للسلطة الفلسطينية أو شريكا للرئيس أبو مازن خاصة وهى قادرة بأكثر من السلطة على تقديم التنازلات.
مفهوم التنازلات لدى حركة حماس هو القدرة على ممارسة الشيء ونقيضه، أو الإعلان الجماهيرى ذو السقف المرتفع وفى ذات الوقت الممارسة على الأرض لما هو أفضل مما تقوم به السلطة «من وجهة النظر الإسرائيلية»، وهذا أحد الأسباب الرئيسية للدعم الإسرائيلى الخفى للحركة أو اللعب فى المناطق التى تصب فى صالح حماس وتحفظ لها مكاسبها على الدوام. فالحركة تواصل الإعلان عن عدم اعترافها باتفاقيات أوسلو فى الوقت الذى التزمت بها فعليا، بل واستفادت منها حينما قررت خوض الانتخابات التشريعية بمقتضاها عام ٢٠٠٦م لانتخاب هيئات السلطة التى انتجتها الاتفاقات، بما فى ذلك خوض الانتخابات فى القدس المحتلة أيضا على أساس اتفاقات المدينة الخاصة. وهكذا كانت مستفيدة بشكل مباشر و«تشرعن» التنسيق الأمنى ما بين السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال، فى الوقت الذى كانت ولاتزال تمطر عباس ورجال السلطة بالتصريحات النارية التى تتعلق بهذا التنسيق الأمنى وتلقى عليه بكل النقائص التى تدغدغ مشاعر جماهيرها «فقط». تماما كما تمارس حماس التناقض الصارخ حينما تكون جزءا من تلك السلطة فتطالب بميزانياتها وبحصة من كعكة الوظائف، لتكون وفق هذا المفهوم قد قدمت «اعتراف كامل» بالاتفاقيات بين منظمة التحرير وإسرائيل ومنها الاعتراف الضمنى بوجود إسرائيل على الأرض.
هذا هو جوهر الأداء السياسى والخطابى لحماس منذ نشأتها وهو يتسق تماما مع نمط الأداء «الإخواني» العام فى كافة قضاياهم وساحات عملهم، ففى الوقت المعلن فيه رفضها لاتفاقيات أوسلو سياسيا تقبل بها نفعيا وتوجه أصابع التخوين للآخرين على ذات الفعل، واليوم تقدم بالوثيقة الجديدة انقلابا آخر بقبول الدولة على حدود ١٩٦٧م من دون نقطة خجل واحدة تعترى وجه الحركة، أو شبح اعتذار ما يستحقه الكثيرون داخل السلطة الفلسطينية وبعض الفصائل الأخرى أو قبلهم دماء شهداء سقطوا تحت العناوين التى تم الانقلاب عليها اليوم فى سلاسة باردة.
بالنظر إلى بنود الوثيقة التى أخرجتها حماس مؤخرا للنور، هناك ملمح ظاهر تبدو فيه نية الحركة تقديم نفسها للعالم بوجه سياسى ليس عليه شوائب الماضى الإخواني، رغم أنه لم ترد بالوثيقة ما يفيد انفصالا صريحا للحركة عن المنهج الإخوانى الذى يحتل «البند الثاني» مباشرة فى وثيقة تأسيس الحركة. ولا تخطئ العين بنودا طويلة ومطولة احتلت مساحة كبيرة من تلك الوثيقة، تفوح منها رائحة استشعار حماس لحجم التغييرات الإقليمية والدولية الواسعة التى جرت من حولها، وهى من خلال تلك البنود تحاول صناعة «تموضع جديد» ومقبول لأقدامها فى ظل تلك المتغيرات التى تموج بها المنطقة، وتلمس خافت لآفاق التسويات القادمة التى ربما تشمل ملف القضية الفلسطينية أو على أقل تقدير تضعها داخل إطار مغاير. لكن حقيقة الأمر أن مشكلة حماس مع محيطها الإقليمى أو الدوائر الدولية هى بأقل تعقيدا بالنسبة لها من واقعها الداخلى المأزوم، فللمفارقة أنه بعد أيام قليلة ستحل ذكرى مرور ١٠ سنوات على الانقلاب الدموى الذى نفذته الحركة بقطاع غزة، ولازال الجميع يذكر المجزرة والمشاهد التى صاحبت انقضاضها على السلطة وما استتبعها من قمع هائل لكل الفصائل الأخرى. مفارقة الذكرى أن حماس تحظر فى القطاع إحياء ذكرى وفاة عرفات منذ سنوات، وهذا العام وبالتوازى مع اطلاق وثيقتها «التصالحية» افتراضا، قمعت أجهزتها الأمنية تظاهرة تضامنية بادرت لها حركة فتح فى غزة تضامنا مع الأسرى المضربين عن الطعام فى السجون الفلسطينية، وهذا الشكل الاستبدادى المنافى للمنطق مرجعيته الوحيدة أن الفاعلية من تنظيم حركة فتح، فضلا أنه من أشكال الحراك الشعبى الذى يضيق به صدر الاحتلال الإسرائيلى، ولذلك تبادر حماس أمام شكل سلمى هى ذاتها فى حاجة لتسويقه، لكن الحماقة أعيت من يداويها وهى ليست بالبعيدة عن مثيلاتها مما ظل يحدث فى قطاع غزة بمعرفة حماس لسنوات مضت.
المفاجأة التى لطمت حركة حماس جاءتها من الفصيل غير المتوقع أن يوجه تلك الانتقادات القاسية لمضمون وثيقة الحركة، هذا الفصيل هو حركة «الجهاد الإسلامي» والذى بالنسبة لنا ربما لم يشكل مفاجأة كالتى أصابت قيادات حماس غداة الإعلان عن تولى هنية لمنصبه الجديد. فى تعليق مطول صدر رسميا عن «زياد نخالة» نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، أعرب فيه عن موقف حركته من بعض أطروحات وثيقة حماس والتى وصفها بداية «التى جاءت فى توقيت غير مناسب»، ثم أعلن صراحة أن القبول بدولة فى حدود ٦٧ غير مرحب به وأن حركة الجهاد ترفض هذا الحل، وأبدى تحفظا شديدا على ما ورد فى الوثيقة من حديث عن توافق وطنى بشأن القبول بدولة فى حدود ٦٧، متسائلا: «هل من يرفض القبول بالفكرة كالجهاد الإسلامى وغيرهم، غير وطنى وغير توافقي!؟». ثم أتبع بالقول أن لا جديد فى الوثيقة، فبرأيي أن ما قالته حماس خلال أكثر من عشر سنوات مفرقا، قالته الآن جملة وموثقا. وهو يرى من حق أى فصيل أن يعبر عن رأيه ويتحمل مسئولية مواقفه وسلوكه، أما نحن فنرى الواقع الذى تعبر عنه الوثيقة وما قيل فى شرحها وتسويقها من قبل الأخوة فى حماس، بمعزل عن الظروف الداخلية لحماس والانتخابات، فنحن نعتقد أن توقيت إعلان الوثيقة كالمثل العربى “هل تذهب حماس إلى الحج، والناس راجعة؟”. عملية التسوية فشلت، ولم يعد هناك فرصة لحل الدولتين أصلا نتنياهو يقول هذا الصراع غير قابل للحل، للأسف تصريحات خالد مشعل لقناة CNN الأميركية ومناشدتها للرئيس الأميركي ترامب، بأن وثيقة حماس تشكل فرصة لتحقيق حل عادل للصراع على فلسطين، ربما تثير قلق محبى حماس وحلفائهم أكثر من الوثيقة نفسها. صديقنا العزيز مشعل يعرف أكثر من غيره الانحياز المطلق والأعمى فى الموقف الأميركى تاريخيا لإسرائيل، إذا كان أوباما الذى كان على خلاف ما مع نتنياهو، لم يستطع أن يفعل شيئا، فهل ترامب سيقدم لنا حلا عادلا؟ وأنا لا أفهم ما المقصود بالحل العادل هنا، عندما يرتبط بدعوة ترامب أن ينتهز فرصة وثيقة حماس؟ ثم إذا كان اتفاق أوسلو واعتراف المنظمة بإسرائيل والمبادرة العربية، كلها لم تشكل فرصة بالنسبة لإسرائيل وأميركا التى تدعمها، فهل “وثيقة حماس” ستكون فى نظرهم فرصة يقبلونها؟! لو كانت إسرائيل ستعطى الفلسطينيين دولة فى حدود ٦٧، التى فيها اليوم حوالى ثلاثة أرباع مليون مستوطن مع القدس، لأعطتها لأبو مازن أو ياسر عرفات من قبله وحماس تعرف ذلك، والعالم كله يعرف ذلك، إذن لماذا نسجل على أنفسنا أى موقف فيه شبهة التنازل عن شبر من أرض فلسطين!؟
ربما اخترت عامدا أن أورد حديث أقرب الفصائل إلى حماس، حتى لا أعدد رؤى أعدائها أو من لا يثقون فيها لدقيقة واحدة أو لمتر أرض. على الأقل نسفت حركة الجهاد ما تروجه حماس عن التوافق المزعوم، وكشفت فى طيات تعليقها أن حماس ومناشدتها لترامب عن أهمية وجدية تلك الوثيقة، هى فقط تقدم نفسها بديلا وتعلن جاهزيتها للسير فى أى طريق من أجل الاحتفاظ بمكاسبها، وأجمع الكل أن كل ما عدا ذلك هو ضجيج وهدير يعاد به إنتاج طحين قديم لا يلفت انتباه أحد ولا يأخذه أحد على محمل جدية الوجه الجديد.