الإثنين 29 ابريل 2024

من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (20)


الدكتور محمد أبو الفتوح غنيم

مقالات19-6-2021 | 15:01

د. محمد أبو الفتوح غنيم

تمثال "توي" الخشبي – متحف اللوفر في باريس

يضم قسم الآثار المصرية في متحف اللوفر في باريس مجموعة من بين أكبر مجموعات الآثار المصرية في المتاحف العالمية، يقدر عددها بنحو أكثر من 50000 قطعة، تغطي فترات طويلة من التاريخ المصري القديم الممتد منذ 4000 قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، بداية من عصور ما قبل التاريخ، وامتداداً مع عصور الدولة المصرية القديمة، فالدولة الوسطى والحديثة، والعصر البطلمي فالعصر الروماني والبيزنطي.

ومن بين هذه المجموعة الاثرية المصرية في متحف اللوفر، قطعة نحتية فريدة تعد من أروع الأعمال الفنية النحتية الصغيرة عبارة عن تمثال "توي" الخشبي الصغير (35 سم)، الذي يعود تاريخه إلى عصر الدولة الحديثة، الأسرة الثامنة عشر، عهد الملك أمنحتب الثالث، حوالي 1375 قبل الميلاد.

كانت السيدة "توي" نبيلة مصرية، وشخصية مهمة في مدينة أخميم، فقد كانت مغنية المعبود "مين" المعبود في مدينة أخميم، مركز عبادته، يقول البعض إنها نفسها زوجة "يويا"، وأم الملكة "تي"، وبالتالي فهي جدة الملك أخناتون، وجدة الملك توت عنخ آمون.

صنع التمثال من نوعين من الخشب، غير المنتشر في مصر، من المحتمل أنهما مستوردان من البلاد الأفريقية الجنوبية، أحدهما استخدم لقاعدة التمثال وهو من شجرة "الشيا"، والآخر استخدم في نحت تمثال السيدة "توي" نفسها، وهو خشب الأبنوس.

يصور التمثال السيدة "توي" تقف وقفة مهيبة، تبدو ممشوقة القوام، هذا الذي ينبض بالأنوثة والانسيابية، تتقدم ساقها اليسرى إلى الأمام كعادة أغلب التماثيل المصرية القديمة، التي تمثل أصحابها في وضع الوقوف، وهو أمر أثار انتباه الكثيرين من الدارسين للفن المصري القديم، فسَّره البعض، من ناحية فنية خالصة، بأن تقدم الساق اليسرى يحقق نوعاً من التوازن والثبات للتمثال فلا يتعرض للسقوط، فبتقديم الساق اليسرى يكون وزن وثقل الجسم مركزاً على الساق الخلفية وهي الساق اليمنى، وهو تفسير يحتاج إلى المنطق كي يأخذ بيده إلى طريق القبول العقلي إذا كانت الساق اليمنى يمكن أن تحقق نفس الغرض، فلماذا اليسرى تحديداً هي الغالبة في التماثيل. بينما يرى البعض الآخر أن السبب في تقديم الساق اليسرى يرجع إلى ان الفنان المصري القديم كان يبدأ نحت التمثال عادة من الجانب الأيمن، وذلك لتفضيله للناحية اليمنى، ومن ثم فإن يمين الفنان كان هو الاتجاه المضاد للتمثال أي الساق اليسرى. بينما يرى البعض ومنهم عالم الآثار الإنجليزي "فلندرز بتري" أن تقديم الساق اليسرى كان بسبب الالتزام بأساليب متوارثة في النقش والنحت صارت تقليداً متبعاً بعد ذلك،

وعلى عكس كل هذه الآراء الفنية، يرجع البعض ذلك إلى سبب فكري ديني، فيرى أن الجانب الأيمن كان الجانب الأكثر اجلالاً والأعظم شاناً عند المصري القديم، فهو الجانب الذي يشير إلى الغرب في مصر القديمة، حيث غروب شمس الحياة أي الموت ومدينة الأموات حيث مقر الأبدية، لذا كان تقدم الساق اليسرى ضرورة لضمان رؤية الجانب الأيمن من التمثال بصورة واضحة وكاملة. وهناك من يرى أن الأمر ليس له علاقة بالفكر التقني أو الفكر الديني، إنما الامر يتعلق بالنحات أو المثال الذي يقوم بصنع التمثال، وما إذا كان أيمناً أي يستخدم يده اليمنى أم أعسراً أي يستخدم يده اليسرى في العمل، فتقديم الساق اليسرى يحقق الأريحية اثناء العمل لمن يستخدمون يدهم اليمنى في النحت، والعكس صحيح بالنسبة للنحات الأعسر، فلا يمكنه العمل بمرونة إلا إذا تقدمت الساق اليمنى للأمام على غير العادة في النحت المصري القديم. وقد يعضد هذا الرأي ولا يجزم به، مقارنة نسبة التماثيل التي تتقدم فيها الساق اليمنى إلى تلك التي تتقدم فيها الساق اليسرى حيث يغلب فيها تقدم الساق اليسرى

 يتدلى ذراعها الأيمن ملتصقاً بالجسم، ويشير الثقب الموجود في قبضة اليد إلى أنها كانت تمسك بشيء في يدها أو تقبض عليه (ربما صولجان مزهر)، بينما يدها اليسرى، تضغط بين ثدييها على قلادة "مينات"، إحدى أدوات وظيفتها.

وعلى الرغم من صغر حجم التمثال، إلا أنه ينطق بالأناقة، في نحته، والنعومة البادية في سطحه وملمسه، كما برع الفنان، في تعامله مع خامة الخشب طيعة التشكيل، في إبراز ملامح الوجه المنمقة، فهذا أنف دقيق، وهاتان عينان لوزيتان، واسعتان، تستقران في ظلال حاجبين منمقين مقوسين، وشفاه مكتنزة، وصفحة وجه مستدير استدارة بدر، تحيط بها حدائق كثيفة من شعر مستعار ناعم دقيق التموجات، على جانبي مفرق متوهج تنساب خصلاته جدائلَ متلاصقة رقيقة، تغطي الكتفين حتى أعلى الصدر من الأمام وخلفية الكتف من الخلف، تنتهي جدائل الشعر بإفريز جميل من ضفائر  أرق وأدق

تزين جيدها صدرية ثرية، بينما رداؤها الطويل، الذي يلف الجسد، ويسقط بهدوء على قدميها، يبدو أكثر اشراقاً على كتفها وذراعها الأيسر، وهو يبرز نهديها المستديرين، فتغطي طياته نهدها الأيسر المترع، بينما تنحسر عن النهد الأيمن الكاعب، مكتفياً بالتكوم تحت ظله، تاركاً لقسماته كامل الحرية في الإفصاح عن أنوثتها الناضجة. يرتفع خصرها مع الاستطالة الطبيعية لجسمها، بينما الفخذان الضيقان لها يؤطران بطنها النموذجي الذي يبحر قليلاً، ويُرى في المظهر الجانبي. قوة في الفخذين تجعلك تنسى النحافة المفرطة في ساقيها.

هناك توازن ملحوظ مواطن الثقل في مكونات هذا العمل النحتي على صغره، ما بين كتلة الرأس، والجذع المستطيل المنتفخ قليلاً والقاعدة المستطيلة المرتفعة، والعمود الخلفي الذي يحقق الترابط والثبات، مع الميل خفيفاً إلى الخلف وهو ما يعطي للتمثال الثبات والتوازن ولصاحبته الهيبة الوقار.

على العمود الخلفي والقاعدة، تقدم الصيغ المعدة لأوزوريس وإيزيس و"جميع الآلهة في الغرب (المقبرة)" حتى يستفيدوا من توي إلى الأبد. في المقدمة، على الجانب الصغير، تتجسد هذه الرغبات في كومة من عروض الطعام والزهور.

من خلال النصوص والتعاويذ المنقوشة على التمثال وتزين العمود الخلفي والقاعدة، صيغ القرابين المكرَّسة لأوزوريس رب الجبانة، وكل الآلهة في الحياة الآخرة، يمكننا أن نفترض أن هذا التمثال الصغير كان جزءًا من أثاث جنائزي في مقبرة السيدة "توي".

في هذا التمثال الصغير، نحن أمام أحد أعمال مدرسة نحتية ذات ميراث عتيق وممتد في فن النحت أخذ سبيله نحو النضج الفني في عهد أمنحتب الثالث، الذي ينتمي إليه هذا التمثال الصغير، وأمام أحد روائع فن النحت المصري في مادة الخشب، وأحد روائع مقتنيات متحف اللوفر في باريس، لا ندري كيف ومتى خرج من مصر؟

ولا ندري هل يعود إليها يوماً ما .. أم سيظل بعيداً عنها إلى الأبد؟

Dr.Randa
Dr.Radwa