كن إنسانًا بالمعنى الذي أمر الله به، ولا يخدعنَّك مظهر أي إنسانٍ.. ركِّز مع قلبه إن كنت من الذين أنعم الله عليهم بمعرفة لغة القلوب، وتشعر بالخير الساكن فى فؤاد العبد، ربَّما مَنْ لم تُقدِّره وتُحسن استقباله، يكون متواصلًا مع الله، وقلبه عامرٌ بالتقوى، وتسكن الرقَّة داخل قرارة نفسه، ومَنْ سكنت الرقَّة جسده راق، ومَنْ راقَ ذاق حلاوة النقاء، وصارت الدنيا لا تشغله.
كان الرسول - عليه الصلاة والسلام -، يفعل هذا مع أصحابه، ولعلَّ قصته مع الصحابى الجليل جلبيب –رضى الله عنه - كانت مثاليًا حيًا على ذلك، فجلبيب كان فقيرًا بالمعنى الحقيقى للكلمة، لا يحتاج لأن يتكلَّم، ملابسه تحكى عنه؛ بأنه من أفقر سكان مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك كان مُحبَّبًا عند نبي الأمة، يُناديه دائمًا الحبيب بـ"حبيبى"؛ لأنه شعر بنقاء قلبه المتواصل مع رب العباد.
مرَّ الرسولُ به ذات مرة، فوجده عابسًا، فطلب منه أن يتزوَّج، لكنه قال لنبى الرحمة: يا رسول كيف أطلب يد عروسٍ وحالي فقير، لا أجد قوت يومى؟.. بعد صمتٍ دام لدقائق قليلة، قال له النبى -صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى فلان؛ وهو من أثرياء المدينة، واطلب يد ابنته للزواج.
فعل جلبيب ما أمره به رسول الله، وطرق الباب.. وإذ بوالد العروس يفتح الباب فيجده شابًا، ملابسه رثَّة، عنوانًا للفقر المُدقع، فصُعق عندما عرف أنه العريس المنتظر لابنته، ولكن جلبيب جعل الحيرة تُصاحبه، فقال له أنا مرسلٌ من عند رسول الله لك.
ذهب الأب الثرى لابته، وقصَّ عليها الحكاية، وقال إنه يرفض أن تتزوج ابنته من هذا الفقير، وكانت المفاجأة فى كلمات الابنة حين قالت: كيف نرفض رسول نبى الأمة؟، وبالفعل كانت ليلة الزفاف.. يومها لم يدخل جلبيب بعروسه بعد سماع مُنادٍ يُنادى بحى على الجهاد، إذ ترك جلبيب عروسه وانضم لصفوف المقاتلين، وكانت المعركة، التى انتهت بنصر جيش رسولنا الأعظم، لكن الحبيب أراد أن يعرف عدد الشهداء، فأخبروه بالأسماء، لكنه قال لهم أين حبيبى جلبيب؟، هل نال الشهادة؟.. بحثوا عنه، فوجدوه غارقًا فى دمائه، ولمَّا عرف الرسول بخبر صعود روحه للسماء، أقبل عليه وقبَّل رأسه، وتساقطت الدموع من بين أهداب عينيه، ورثاه بكلماتٍ مُؤثِّرة فحواها: أنا منك وأنت منى يا جلبيب.
قصة الشفيع مع جلبيب مفترض أن نتعايش بها، لا نقلِّل من شأن أحدٍ، فكلنا خلق الله، لا نعرف أن المجهول الذى يلفظه الناس فى الأرض، ربَّما يكون من مشاهير السماء.