نعيش منذ سنوات أزمات عدة في صناعة الأغنية؛ فنادرًا ما نستمع إلى كلمات تُحفر في أذهاننا، ولحن يظل عالقًا في أذاننا، وصوتًا يجبرنا على تكرار سماعه، وهذه الندرة أفسحت المجال إلى ما يُطلق عليه "أغاني المهرجانات" وغيرها من الصور المختلفة للفن الهابط؛ وهذا ما دفعني لكتابة سلسلة من المقالات بعنوان «تحت خط الفن».
أزمة شاعر!
وكان لزامًا عليّ البدء بالحديث عن أزمات الشعراء كتاب الأغاني، فهم الشرارة الأولى لصناعة الأغنية، وقبل أن أتحدث عما يعيشونه من أزمات، فلابد من التفريق بين الشاعر وكاتب الأغاني.
والشاعر الحقيقي يكون قادرًا على نظم أبيات تعبر عن حالة فنية يعيشها أو يلمسها بكلمات تدخل القلب وتتسلل إلى العقل وتهمس إلى الوجدان؛ فلا يستنسخ جينات أغنيات مكررة، بل يبدع في همساته لمستمعيه، بأفكار ومصطلحات جديدة، ولكن ليس كل كاتب أغنية يكون من الشعراء، فهناك كتاب أغان لا تعبرون عن حالة فنية، بل تتمثل موهبتهم المزيفة فقط في كتابة كلمات ركيكة مفككة ولكنها تناسب اللحن.
وقبل أن تضع اللوم على الفن الهابط وداعميه، من الواجب أن نسأل أنفسنا: "هل وفرنا للشاعر الظروف الملائمة كي يبدع؟!".
ويعيش شعراء مصر كتاب الأغاني صعوبات جمّة، لا تسهل عليهم الإبداع، وتواجههم سدود تمنع موهبتهم من أن تشرق، وتغلق الأبواب في وجوه كثيرين منهم، فبعد أن أفل نجم منتجي الأغنية، وأصبحت الصناعة واكتشاف المواهب تتم غالبًا بمجهودات فردية أو تلعب الصدفة فيها دورًا بارزًا؛ باتت أبواب المجد والشهرة موصدة أمام شباب الشعراء، يحاول بعضهم التسلل إلى الأضواء فلا يجدون دليلًا لطريقهم وداعمًا لهم، وعليهم انتظار صدفة للنجومية، وربما فقد بعضهم الأمل في النجاح وإيصال فن راق إلى الناس، وضاعت معهم فرصة تقديم شيء مختلف، وتركوا أماكنهم لأنصاف الموهوبين الذين احتلوا الساحة.
ولا تتوقف الصعوبات فقط عند البحث عن مكان وسط كتاب الأغاني، ولكن الناجون من مرحلة التشويش هذه لا يعلم كثير منهم مدى الصعوبات التي تواجه الشعراء الذين ذاع صيتهم؛ فبعد أن يبدع أحدهم في كتابة أغنية جديدة، يبدأ البحث عن مطرب يغني كلماته، أو ملحن يزيدها جمالًا، وهنا تبدأ المتاعب في الظهور؛ ويطلب أحد المطربين الحصول على الأغنية بلا مقابل من باب "أقف جانبي وزق الفرح"، أو لقاء مبلغ زهيد، ولا يتوقف الأمر عند ضياع الحقوق المادية فقط أو جزء منها، والتي تكفل للشاعر حياة كريمة لمواصلة رحلة الإبداع، وإنما يواجه أكثرهم مشاكل متعلقة بالحق الأدبي وحقوق الملكية الفكرية.
بعد إرسال الأغنية عبر "واتساب" إلى مطرب ما:
المطرب: الأغنية حلوة أوي وعجبتني وهتنزل في ألبومي الجديد ولايقة على صوتي.. ابعتلي التنازل
الشاعر: أنا مبسوط إنك هتغنيها ألف مبروك علينا.. بس ممكن تبعتلي حقي المادي علشان أبعتلك التنازل؟
المطرب: طبعا يا حبيبي بس المبلغ ده كبير أنا هدفع نصه بس.. أنا لسة هصرف على الأغنية والدعاية كتير، وطبعا ده مش هيكون آخر تعاون بيننا
الشاعر: خلاص أنا موافق وأنا هعمل تنازل عن حقوق الأغنية باسمك
وبعد تسجيل الأغنية…
الشاعر: هي الأغنية هتنزل في ألبومك الجديد
المطرب: لا أنا قررت أنزل أغاني سينجل الفترة وأجلت الألبوم، لكن الأغنية هتكون فيه
ويمر شهر واثنين وعشرة.. ويعلن المطرب عن ألبومه الجديد، وهنا ينتظر الشاعر أغنيته التي وضع عليها آمالًا كبيرة، لكنه يصدم حينما لا يجد أغنيته ضمن قائمة أغنيات الألبوم، وبعدها يحاول التواصل مع المطرب، وبعد عناء يخبره أنه فضل تأجيل طرحها رغبة منه في الاهتمام بها كأغنية منفردة، ويسلم الشاعر إلى الأمر الواقع.
وبعد عامين وربما ثلاثة، يشاهد الشاعر إعلانًا عبر منصات التواصل الاجتماعي باقتراب طرح أغنيته التي نسيها، وبعد طرحها لا تحقق نجاحًا يُذكر!. ماذا حدث؟.. هل الشاعر كان مقصرًا؟.. أم كان موهومًا بنجاح أغنية كُتب عليها الفشل؟.
الحقيقة أن الأغنية كانت كلماتها جديدة، ونسبة نجاحها كبيرة، ولكن كان هذا وقت كتابتها، وبعد مرور شهور وسنوات، طرحت أغنيات أخرى قريبة الشبه منها، وهو ما جعلها تبدو للمستمع كما وإنها مكررة مستنسخة من أعمال سبقتها، وهذا على عكس الواقع.
مشاكل الشعراء وصعوبات تواصلهم مع المطربين وكبار الملحنين أصبحت كبيرة، وإن كنت مستمعًا يجيد تذوّق الكلمات والألحان الجيدة؛ فلا تلتفت إلى اسم المطرب فقط حينما تستمتع إلى أغنية ناجحة، ولكن ابحث عن اسم الشاعر والملحن كاتب الأغنية وملحنها، فهما أساس الإبداع قبل أن يضع المطرب بصمته الصوتية عليها لتعجبك، فلا تكن ممن يعيشون «تحت خط الفن».