الثلاثاء 7 مايو 2024

من قيم التأسيس.. رؤية لتنشئة الأجيال (4) الجرأة على الحق

مقالات29-6-2021 | 14:45

من أجمل وأرجى القِيَم التي لا بد منها إذا أردنا جيلاً قويًّا ، رادعًا للظلم ، واقفًا مع الحق وبه ، داعيًا إليه ، مدافعًا عنه ، قيمة (الجرأة في الحق وعليه).

ومن هنا نحن نريد أن نرسِّخَ هذه القيمة ونغرسها في نفوس أولادنا حتى نعيش حالة من الاستقرار والهدوء ، ونحافظ على ما حبانا الله به من نعمة الأمن والأمان ، ونحقق قيمَ العدل والإنصاف ، وتسودنا قيم الحب والرحمة والتسامح والألفة .

والحَقُّ في أدق معانيه : هو الشيء الثابت المستقر الذي لا يتغير، فلا يوجد تناقض ولا تصادم ولا تعارض ولا تعاند ، أي أن الحق هو مطابقة وموافقة الواقع ، لأنه يتسم بالصدق لا غير.

والحقُّ يعلِّم الصَّوَابَ والصحيح ، والعدل والإنصاف، والحب والرحمة، والتعاون والاستقامة، والتسامح والإنسانية، ويصنع الخير والجمال .

والحقُّ يحفظ من الخصومة والكذب ، والنفاق والرياء، والظلم والبغي ، والجور والتعسف، والكراهية والقسوة، ويردع الشر والقبح والفساد.

فالحَقُّ إذن هو نتيجةٌ رصينةٌ لقيمة الصدق، هذا القيمة التي تُهذّب السلوك ؛ بما يجعل كل تصرف صادر عن الإنسان (قول أو فعل أو تعبير أو سلوك أو تفكير أو حركة أو سكون) لا يكون إلا موافقًا للفطرة والإنسانية والمنطقية، أي أن هذا التصرف الصادر من الإنسان يكون موافقًا لمراد الله (عز وجل)، وصانعًا للخير والجمال في الكون كله.

ولننظر إلى هذه النماذج التي تعبّر عن الجرأة في الحق من أطفال وصبية الصحابة والسلف الصالح (رضي الله عنهم) ؛ لنتعلم منهم في عصرنا الآن كيف ينطق اللسان بالحق ولا يقرّ الباطل ؟

حينما وَلِيَ الخلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)، وفدت عليه الوفودُ من كل بلد لتُبيِّن حاجتها وللتهنئة ، فوفد عليه الحجازيون ، فتقدم غلام هاشمي للكلام ، وكان حديث السن ، فقال عمر: لتأخر أنت وليتقدم من هو أسن منك ، أي يتكلم مَن هو أسَنُّ منك ، فقال الغلام : أيَّد اللَّه أمير المؤمنين ، إنما المرء بأصغرَيْهِ ، قلبه ولسانه ، فإذا منح اللَّه عبدًا لسانًا لافظًا وقلبًا حافظًا ؛ فقد استحق الكلام ، ولو أن الأمر – يا أمير المؤمنين – بالسن؛ لكان في الأمة مَن هو أحق بمجلسك هذا منك ، فقال عمر: صدقْتَ ، قُل ما بدا لك   .

فتمثل عمر عند ذلك بقول الشاعر:

تعلم فليس المرء يولد عـالماً ... وليس أخو علم كمن هو جاهل

وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحـافل

وحين خرج المسلمون إلى أحد للقاء المشركين ، ولما اصطفّ الجيش قام النبي (صلى الله عليه وسلم) يستعرضه ، فهو القائد ، فرأى في الجيش صغارًا لم يبلغوا الحلم حشروا أنفسهم مع الرجال ، يريدون الجهاد في سبيل الله تعالى ، يريدون إعلاء كلمة الله ، اصطفوا للجهاد وللشهادة ، فأشفق عليهم النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فردّ من استصغر منهم ، وكان فيمن رده (صلى الله عليه وسلم) رافع بن خديج وسَمُرة بن جندب (رضي الله عنهما) ، ثم أجاز رافعًا لِمَا قيل : إنه رامٍ يُحْسِنُ الرِّمَايةَ ، فبكى سمرة وقال لزوج أمه : أجاز رسول الله رافعًا وردَّني مع أني أصرعه ، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الخبر فأمرهما بالمصارعة ، فكان الغالب سمرة ، فأجازه عليه الصلاة والسلام.

وهذا هو سيدنا عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) كان له ولد صغير ، فرآه عمر في يوم العيد وعليه ثوب خَلْق – أي قديم متمزق – ، فدمعت عيناه ، تدمع عيناه وهو أمير المؤمنين؛ لأنه لا يستطيع أن يكسو ابنه ثوبًا جديدًا للعيد، فلما دمعت عيناه رآه ولده فقال: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! يسأل الولد أباه ، قال: يا بني ، أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخلِق ، قال : يا أمير المؤمنين ، إنما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه أو عق أمه وأباه ، وإني لأرجو أن يكون الله راضيا عني برضاك. فما أجمل هذه التربية ، وما أحلى هذه التنشئة.

ومن النماذج التي تُذكر في هذا الشأن أيضًا : أن البادية قحطت في أيام هشام بن عبد الملك ، فقدمت عليه العرب فهابوا أن يتكلموا وفيهم " درواس بن حبيب " وهو يومئذ ابن ست عشرة سنة ، فوقعت عليه عينا هشام بن عبد الملك ، فقال لحاجبه : ما يشاء أحد يدخل عليّ إلا دخل حتى الصبيان ؟! فوثب " درواس بن حبيب " حتى وقف بين يديه مطرقًا ، فقال : يا أمير المؤمنين إن للكلام نشرًا وطيًا ، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره ، فإن أذنت لي أن أنشره نشرته . قال : أنشر لا أبالك ، وقد أعجبه كلامه مع حداثة سنه . فقال: إنه أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة نقَّت العظم ، وفي أيديكم فضول أموال ، فإن كانت لله ففرّقوها علي عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم ؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم { إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} () فقال هشام : ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً. فأمر للبوادي بمائة ألف دينار ، وله بمائة ألف درهم ، فقال: أرددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب ، فإني أخاف أن تعجز عن بلوغ كفايتهم . فقال : أما لك حاجة ؟ قال: ما لي حاجة فيَّ خاصة دون عامة المسلمين . فخرج وهو من أنبل القوم.

وهذا هو الصبي عبد الله بن الزبير (رضي الله عنه) يلعب مع الصبيان في الطريق فيمر بهم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ، فيفرّ الصبيان هيبةً من عمر إلا ابن الزبير ، فيسأله عمر (رضي الله عنه) : لِم لَم تهرب مع الصبيان ؟ فيقول الصبي كلمته التي حفظها له التاريخ : « لست جانيًا فأفر منك ، وليس في الطريق ضيق فأوسع لك».

فما أجمل أن نربي أبناءنا على الشجاعة والجرأة في الحق مع حسن أدب وتقدير واحترام وعفة في السلوك والأسلوب .

Egypt Air