الجمعة 24 يناير 2025

مقالات

حكايتي مع «مسز فرانكا»

  • 30-6-2021 | 14:37
طباعة

فجأة وجدتها أمامي بينما كنت أتسوق وأشترى احتياجات البيت من سوبر ماركت أولاد رجب بالمقطم.. "مسز فرانكا" معقولة؟!.. معقول أشوفك مرة أخرى بعد 35 عاماً.. نظرت إلي طويلا وتصورتنى أعاكسها أو أرمي جتتى عليها.. أنا الدكتورة فلانة.. مش مسز فرانكا يا أستاذ!؟

       

خرجت من السوبر ماركت المكيف تكييف مركزى وجسمى كله يتصبب عرقا من شدة خجلى من الدكتورة التي تصورت أنها المسز فرانكا.

 حكايتى مع مسز فرانكا حكاية غريبة.. بدأت في الثلث الأخير من عام 1985.. العام الذى قررت فيه أن أخوض اختبارات تحديد مستوى إجادتى للغة الإنجليزية حتى التحق بالمستوى المناسب للحصول علي كورس التويفل بالجامعة الأمريكية.

 

وقتها، كنت أريد المحافظة على حبي وعشقى القديم للغة الإنجليزية.. حيث كنت متفوقًا في اللغتين الإنجليزية والفرنسية في الثانوية العامة لدرجة ملحوظة جدأ من الجميع.. كانت درجاتي في الثانوية العامة 37 من 40 في الإنجليزي و27 من 30 في الفرنساوي.. والفضل الأول في ذلك لأساتذتي الأستاذ زغلول والأستاذ نعمان في المرحلة الإعدادية والأساتذة كامل وشوقي ومحمد عبد العزيز في المرحلة الثانوية.

 

من أول وهلة شعرت بأننى سوف أستفيد جداً من التويفل..أحببت الكورس إلى حد الإدمان بدون أى مبالغة.. فقد عدت إلى عشقى القديم.. كان حلمى فى تلك اللحظات أن أخوض تجارب صحفية جديدة، بخلاف مجلة المصور، في مكاتب المجلات والصحف الأمريكية والبريطانية الكثيرة في مصر.. كان شغفي كبيرا وحلمي يكبر بأن أنضم ذات يوم إلى نيويورك تايمز أو النيوزويك أو التايمز أو الجارديان أو الواشنطون بوست.

 

مضى الشهر الأول فى الكورس على خير.. وكانت مس فرانكا معلمتنا الأمريكية الرقيقة تمنحنا  بشخصيتها الإنسانية المتدفقة حيوية غريبة طوال هذا  الشهر.. بصراحة أحببت مس فرانكا حباً لا حدود له لإخلاصها وتفانيها وعشقها لمهنتها كمدرس للغة الإنجليزية.

 

وخلال الشهر الثاني وتحديداً فى 7 أكتوبر اختطف أربعة فدائيين من جبهة التحرير الشعبية الفلسطينية السفينة السياحية الإيطالية "أكيلى لاورو" حينما كانت تستعد للإبحار من ميناء الإسكندرية إلى ميناء بورسعيد ثم إلى أشدود فى إسرائيل.. لم يكن هدفهم اختطاف السفينة بل كان الوصول إلى ميناء أشدود وقتل حراسه الإسرائيليين انتقاماً من قيام إسرائيل فى أول أكتوبر 1985 بتفجير مقر منظمة التحرير الفلسطينية بتونس فى (عملية الساق الخشبية) وتدمير المقر بالكامل وقتل 60 من أعضاء المنظمة.

 

أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الزعيم ياسر عرفات في بيان رسمي رفضها بشدة اختطاف السفينة وأنها ستقوم بمحاكمة المختطفين الأربعة بعد تسلمهم فى مقرها بتونس.. وتدخلت السلطات المصرية وأرسل أبو عمار محمد أبو العباس رئيس جبهة التحرير الشعبية إلى القاهرة التي قامت بالتفاوض مع المختطفين الذين طالبوا بإطلاق سراح 50 فدائيا من سجون إسرائيل وعدم المساس بهم.

وخصصت القاهرة طائرة مصرية لتسليم المختطفين الأربعة ومعهم رئيسهم أبو العباس للمنظمة في تونس بعد أن قاموا بالإفراج عن رهائن السفينة السياحية الإيطالية.. ولكن اعترضتها طائرات أمريكية أف 14 بناء على أوامر الرئيس الأمريكي ريجان.. وأجبرتها على الهبوط في قاعدة سيفونيلا الإيطالية التابعة لحلف الناتو.. أي للولايات المتحدة الأمريكية.

 

 

لقد عرف الأمريكيون موعد سفر الطائرة المصرية.. ومن أي مطار ستقلع ، واكتشف الرئيس مبارك والمشير أبو غزالة أن جواسيس السفارة الأمريكية تنصتوا على اتصالات الرئاسة، أو بالأحرى رجال السي آى إيه المنتشرين في داخل السفارة الذين قاموا بالتنصت على كل اتصالات الرئيس مبارك مع المشير أبو غزالة.. ومنها عرفوا ما الذي سيجرى.. ومتى ..وكيف !

 

 

كان طبيعياً إزاء هذا الإرهاب الجوي الأمريكي أن يثور الرأي العام المصري بل وكل الشعوب العربية علي ما فعله الأمريكيون.. فخرجت المظاهرات الحاشدة إلى الشوارع والميادين تندد  بهذا التدخل الأمريكي السافر.

 

 

لم يختلف ما جري في ميادين القاهرة والإسكندرية وغيرها من المحافظات عما جري داخل جدران الجامعة الأمريكية نفسها بميدان التحرير.. حيث ثار الطلاب ثورة كبيرة وأضربوا بشكل جماعى عن دخول فصول الدراسة بكليات الجامعة وانتقدوا علنًا وخطابة سياسة تنصت وتدخل أمريكا السافر.. وداخل قاعة الكورس اعترفت مس فرانكا بأن ما حدث جريمة وفضيحة للبيت الأبيض.. وأنها شخصياً تعارض سياسات ريجان.. وكان ملفتا أن تقول بينما دموعها تنهمر: لست الأمريكية الوحيدة التي تعارض سياسات ريجان.. نصف  الأمريكان لا يؤيدون الرئيس.. سواء ريجان أو غير ريجان !

 

 

 

أغلقنا الكراسات والكتب وقررنا أن ننسحب من الكورس المجاني الذي كان منحة أمريكية جعلناها محنة لكل الأمريكيين!.. ولن أنسي أبداً دموع مس فرانكا التي وصفها زميلي في الكورس إسماعيل منتصر نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر آنذاك ورئيس تحريرها فيما بعد، بأنها دموع صادقة تعبر عن مكنون قلوب أغلب الشعب الأمريكي.

 

وهكذا ضاع حلمي وأملي القديم في تنمية وتطوير استخدامي اللغة الإنجليزية.. أضاعه الرئيس ريجان بسياساته الظالمة وفضائح رجال مخابراته التي أصبحت آنذاك ومازالت حتي الآن على كل لسان..!

الاكثر قراءة