لقد أمنت جانب ذلك الرجل الخفيف الظل الطيب المعشر الذي أحاطنا بكل هذا الحب والكرم والاهتمام... وفجأة عرفت أنه الرجل الوحيد الذي صادفته في حياتي.. الذي يمكن أن يكون ينبوع الخطر!!
كنت في رحلة إلي شمال إفريقيا....
كان الناس هناك في ثورة دامية علي المستعمر الغاصب لا يكاد يمر يوم حتي يسقط عشرات الضحايا وتسبح الشوارع في الدماء الزكية والفرنسيون يقابلون العزل بالسلاح ويقابلون صيحات الحرية بأصوات المدافع وفرقعة القنابل.
وصلت إلي الرباط ونزلت في أحد فنادقها وفي اليوم الأول نزلت إلي بهو الفندق مع شقيقي فؤاد الأطرش فوجدت رجلا وسيما عليه سيماء النبل يتقدم نحوي ويصافحني شادا علي يدي في شوق ولاحظ الدهشة علي وجهي فقال لي أنه يعرفني وأنه سيحاول أن يذكرني بشخصه وجلس إلي المائدة التي جلسنا إليها وتحدث فسالت من عباراته الرقة والظرف وقال إنه زارني في مصر وراح يصف أثاث بيتي وشلل الاصدقاء التي لا تنقطع عنه وكان بارعا حين لف المديح في ثوب تذكيري بمناسبة لقائنا ولكني لم أتذكر أنني رأيته قبلا ونظرت لوجه فؤاد وقرأت عليه أنه هو بدوره لا يذكره...
ماذا نفعل إذن والرجل يقول عن بيتنا أشياء لا يمكن أن يقولها إلا رجل دخل بيتنا فعلا؟
ولم يترك المحدث البارع لنا فرصة نفكر فيها بل استأنف يقول إنه جاء ليرد بعض الجميل بعض الكرم الذي لقيه قال إنه سيضع سيارة تحت تصرفنا أما ما أعده لبرنامج ذلك اليوم فهو نزهة يطوف بنا فيها الرباط ليرينا معالمها..
وقبلنا.. ليس علي مضض بل بارتياح لأن الطريقة التي يعرض بها الرجل مقترحاته طريقة جذابة أما السيارة التي تركها لتكون تحت تصرفنا فهي بويك أنيقة تسير كالعروس وقد حاولنا رفضنا ولكنه أبي وقد حاول أن نشكره علي كرمه ونطلب منه أن يقتصد فيه قليلا لأننا ارتبطنا بدعوات واستقبالات أخري ولكنه كان يقنعنا وهو يرفض بأن الذي يفعله معنا ليس إلا جزءا يسيرا من كرمنا!
وأذهلنا هذا وفكرت ماذا يريد هذا الرجل؟ وما السر في كرمه الزائد غير المعقول؟
و في اليوم الثالي ذهب أخي فؤاد إلي أحد البنوك ليصرف شيكا محولا وكان معه رينيه - وهذا هو اسم الرجل - وأخبر مدير البنك أخي بأن الحوالة لم تصل وإنه يأسف لهذا التأخير الذي لا يد له فيه وقال له أخي أننا غرباء في حاجة للمال ولكن مدير البنك كرر اعتذاره وحينئذ قال رينيه لمدير البنك «أصرف له من حسابي»...
وحاول فؤاد أن يرفض ولكن رينيه أصر وقال أنه يقبل الشيك مظهرا له وأخذ فؤاد المبلغ وعاد به..
وشكرت رينيه علي أريحيته وشددت علي يده وأنا أقول له:
- وداعا يا صديقنا.. سنذهب إلي الدار البيضاء اليوم.
فقال:
أنا سأذهب معكم
وحاولنا أن نثنيه عن هذا العزم ولكنه عودنا علي العناد الرقيق المهذب وانطلق معنا إلي كازابلانكا أي الدار البيضاء..
وطاف بنا أرجاءها وذهب بنا إلي معالمها ويسر لنا كل الأمور المعقدة التي تصادف الإنسان في بلد غريب وهو إلي هذا خفيف الظل حلو النكتة وسريع البديهة وأليف المجلس فلم نمل صحبته ولا تضجرنا من مرافقته لنا.
وذات يوم اقبلت علي فندق كازابلانكا صحفية تونسية شديدة الغيرة علي بلادها وقد لمحت رينيه يجلس مع فؤاد علي مائدة مجاورة فسألتني وهي تتصنع الجهل:
- من هذا الذي يجلس مع شقيقك؟
- قلت لها في بساطة:
- إنه صديق قديم اسمه رينيه
فقالت في ثقة:
أنه بوليس سري ياسيد فريد أحذروا جانبه!
وصعقت لهذه العبارة صعقت ليس لأنني أخشي البوليس السري ولكن لأن رينيه كان من البراعة والثراء وخفة الظل بحيث صرف تفكرينا تماما عن صفته هذه..
وقلت لفؤاد ما قالته الصحفية بعد انصرافها فقال لي:
يخيل إلي أنها صادقة ولكن لابد أن نكتشف ذلك بأنفسنا وذات يوم خرجنا إلي استراحة خارج حدود المدينة وجلسنا في بهو واسع نتجاذب أطراف الحديث وفي رأسينا - فؤاد وأنا- ألا نصارح رينيه بشيء حتي نري ماذا يريد منا
و فجأة صاح أحد جارسونات المحل:
- مسيو جيمس.. تليفون!
فنهض رينيه واتجه إلي التليفون
وفهمنا أن رينيه اسم مستعار وحين عاد رينيه بعد دقائق كان يبدو علي الاضطراب وقد نظر لوجهينا فوجد فيهما صمتا مطبقا ولم يجد شيئا يفهم منه أي معني..
وجلس.. وأعاد النظر لوجهينا كانت هناك حرب أصعاب خفية انهاها بقوله:
أنني مشهور باسم جيمس وأصدقائي وخدم الفنادق والمحال العامة يعرفونني بهذا الاسم.
وهكذا أجاب رينيه علي سؤال لم نوجهه إليه وحاول أن يخفي ارتباكه ولكنه لم يفلح ورحمنا فيه هذا الارتباك وفضلنا ألا نفاتحه في شيء وسارت الأمور بيننا كلما كان يقابلنا في الصباح ويقضي معنا سحابة النهار ينتقل في صحبتنا في سيارته ويعلق علي الحوادث العادية في أيامنا تعليقاته الخفيفة اللطيفة ولا يتركنا إلا في المساء بعد أن نأوي إلي المضاجع.
وقد وصلنا في رحلتنا إلي فاس وكانت فاس آخر مدينة ننزل بها وعرف رينيه أننا سنغادر شمال إفريقيا في تلك الليلة فأقبل علينا وبه مزيد من الخفة والرقة ومكث معنا حتي حانت ساعة الرحيل فانتحي بنا ناحية وقال:
- يجب أن أقول لكم الحقيقة قبل أن ترحلوا.. أنا بوليس سري معين من قبل السلطات الفرنسية، لا تنسو أنكم ابناء أسرة الأطرش التي كانت من أكبر اعداء الفرنسيين في الشرق العربي ولقد توجست السلطات الفرنسية خيفة منكم وأنتم تصلون لهذه البلاد وهي في أتون الثورة لهذا عينت لمراقبتكم وثقوا أنني لو كنت وجدت شيئا لما ابلغت عنه لأنني أحببتكم وصرت صديقا لكم بالفعل!
ومازال رينيه صديقا بالفعل نتراسل معه ويذكر لنا الحقائق التي أولها أنه لم يزر القاهرة مرة واحدة.. ولم يجئ إلي بيتنا ألا في الأحلام
فريد الأطرش
الكواكب 199- 24 مايو 1955