الثلاثاء 18 يونيو 2024

فريد الأطرش يفتح قلبه

16-5-2017 | 09:31

فريد الأطرش: ما ذنبى إذا كنت لا أريد أن أتزوج حتى لا أطلق أو اهجر أو أخون؟! ما ذنبى إذا كنت أريد أن أعيش الحب بانفعالاته كلها التى تلهب قلبى وتزكى روحى. هذه هى "بلوتى" فى الحياة وسر شقائى وعذابى!..

فريد الأطرش. طابعه الحزن. حزين فى أغانيه، حزين فى حياته، حزين فى حديثه العادي. يكفي أن تسمع إحدي أغنياته: أبكى ياعين أو يا قلب يامجروح أو نجوم الليل لتحس أساه وألمه الذي يختلط في كيانه مع الدم. ولكن، لم هذا الحزن وفريد الاطرش يعيش كأمير من أمراء ألف ليلة ؟! لقد أقام لنفسه فى عمارته المطلة على النيل قصرا فخما، أختار له الدور العاشر من العمارة وزينه ووشاه بكل ما هو نفيس وفاخر، يعيش فى حياته متيسر الحال تحوطه شهرة كبيرة في كل أرجاء الشرق العربى وبلدان الغرب أيضا. ما هو إذن سر طابع الحزن الذى يغلف فريد الاطرش ويأسره فى نطاقه فلا يتجاوزه، ويجعله هكذا حزينا فى حياته العادية وفى أغانيه وفى حديثه إذا تحدث ؟! إن فريدا يفتح قلبه لأول مرة ويكشف سر طابع الحزن الذى يميزه. إنه الحب.

فتح فريد الأطرش قلبه، على سر حزنه وسر شقائه فقال:

- الحب. نه عذابى فى الحياة أنه المر الذى أشربه مكرها حتى أعيش وأنتج. وأعطى للناس أنغامى المشحونة بدماء قلبى التى يسفحها الحب. ولكنى لا أستطيع أن أعيش بلا حب، فالفنان لا يستطيع أن يقدم للناس فنا نابعا من قلبه إذا لم يخفق هذا القلب بالحب، خاصة إذا كان هذا الفن هو الموسيقي، إن الموسيقي هي مشاعر الفنان، وقد يحس الناس بهذه المشاعر فيتجاوبون معها، وقد لا يحسونها لسبب بسيط فقد تكون ترجمة لعواطف صناعية غير نابعة من القلب.

قلت لفريد: لا جدال فى أن الحب هو السعادة. هو جمال الوجود كله، يفتح القلوب للحياة، ويملأ القلب الحزين بالسعادة، فكيف يتعس قلبك ويعذبك إلى هذا الحد؟!

وتنهد فريد الاطرش من قلبه الجريح وقال:

- كثيرا ما سعدت بالحب، ولكن لسوء حظ لا تستمر هذه السعادة كثيرا، إننى أتلفت حولى فلا أجد من بقاياها غير الذكريات، وذلك شأن كل شىء فى الدنيا، يبدأ وينتهى عندما يشاء الله أن يبدأ أو ينتهى. والحب امتزاج وائتلاف بين روحين، يبدأ فى القلبين كأحساس بالحاجة إلى التآلف والامتزاج، ثم يتلوه شعور بالاستلطاف والحاجة إلى الارتباط بعد التلاقى والحديث، هذا هو الحال، إذا ما تقاربنا وتبادلنا الحديث بدأ الحب. وشىء آخر أحب أن أضيفه عن نفسى أنا بالذات: أن الروح تستهوينى قبل الجمال فالتماثيل الجميلة تصلح للمتاحف لا للقلوب.

وقاطعت فريد الاطرش متسائلة: إذا كنت تدرك الحب هذا الادراك وتفهمه هذا الفهم، فلم لا يدوم الحب عندما تقع فى الحب؟

وشرد فريد الاطرش ببصره، واستسلم للصمت والتفكير لحظات ثم قال:

- استمرار الحب أمر  غير "مضمون" اللهم إلا إذا تأكد الحب بمرور الزمن، والحب الحقيقى لا يتأكد بمرور شهر أو عام أو عامين، بل هو إحساس يتوطن فى القلب ويشبع الروح حتى آخر العمر، وأنا لم ألتق بعد بمثل هذا الحب، فكل قصص حبى تنتهى أبدا نهايات سريعة.

وعاد فريد يصمت، ظللت حواجبه سحابة حزن: وبدأ الشرود فى عينيه، بينما ركزت نظراتى فى وجهه متسائلة والسبب؟!

- الزواج. إننى أؤمن بأن الزواج يقتل الحب، ولا أستطيع كفنان أن أعيش بلا حب، فالحب هو الهامى وكل من أقع فى حبهن يتمسكن بالزواج، رغم أننى أشترط عليهن جميعا قبل التورط فى الحب ترك موضوع الزواج هذا على "الرف". ولكن الذى يحدث، أن الواحدة منهن تنتابها حالة من الأصرار، أما الزواج وأما الهجر. وفى العادة يقع الهجر فأنا لا أغير رأىى أبدا. شتان بين الحب والزواج. الحب شد وجذب غيرة ولهفة ودموع وسعادة وحنين وخيال وحرمان وتجاوب، الحب فوق هذا كله إحساس مسيطر يقود الإنسان إلى حيث يوافقه خياله. والمحب قد تجده أحيانا يبكى وأحيانا أخرى يضحك، وقد يتخيل الحبيبة إلى جواره، وهى على بعد مئات الاميال، وقد يبعدها عنه وهو فى مسيس الحاجة اليها. ومثل هذه الانفعالات جميعا تولد الفن وتخلق الاحساس المرهف وتغذى فى الفنان كيانه وعقله وروحه. أما الزواج فهو روتين مريح، امرأة يمتلكها زوجها امتلاكا تاما. يطلبها فيجدها بين يديه ويشكلها ويلونها بالشكل الذى يحلو له فهى زوجته ومن حقه عليها أن تطيعه صاغرة. وإذا خرجت عن طاعته فمن حقه أن يطلقها أو يهجرها أو يخونها، فما ذنبى إذا كنت لا أريد أن أتزوج حتى لا أطلق أو أهجر أو أخون؟! ما ذنبى إذا كنت أريد أن أعيش الحب بانفعالاته كلها التى تلهب قلبى وتزكى روحى هذه هى "بلوتى" فى الحياة.

وقاطعت فريدا قائلة: معنى هذا أنك لن تتزوج أبدا، وأنك ستظل تملأ قلبك بالحب الشقى المحروم الذى يغذى فنك والهامك، فما رأيك فيمن يقول أن الحب عند المرأة هو كل شىء فى حياتها، بينما هو عند الرجل شىء على هامش حياته؟!

- أما إننى لن أتزوج فتلك حقيقة. اللهم إلا  إذا تركت الفن وأصبحت إنسانا عاديا يعيش ليأكل ويشرب وينام، أى بلا إحساس أو انفعال. أما أن الرجل يجعل الحب شيئا على هامش حياته فذلك ادعاء كاذب، فالرجل عندما يحب حبا حقيقيا يكون حبه أقوى من حب المرأة عشرات المرات. أو على أسوأ تقدير يكون مساويا لحبها. والمظهر الحقيقى للحب هو الحياة، ليس مجرد الكلام، واحصاء الاخطاء والمحاسن، إنه شعور يتلاشى الحبيبين أحدهما فى الآخر. إلا أن المرأة بكل أسف مخلوق مغرور معقد، عندما تشعر أن الرجل يحبها تتدلل عليه وتتكبر عليه وتزهد فيه بعد أن تثق أنها قد تملكته، وكلما اضطر الرجل إلى الخنوع لها كلما زادت فى تكبرها وصلفها.

وفاجأت فريد الاطرش بالسؤال التالى: هل أنت من الرجال الذين يسعون خلف المرأة لاسترضائها ومصالحتها إذا غضبت وهجرتك، أم تراك تهجرها أنت الاخر؟!

- أنا لا أجبر إنسانة على حبى، ولكنى أحاول أن أستردها إذا كنت أحبها، وأنا عادة أحاول أن أحلل الظروف والملابسات حتى أصل إلى سر هجرها لى، فإذا ثبت أنها قد هجرتنى عن ملل وكراهية فأنا أضحى وأحاول الابتعاد عنها، فالعواطف لا تتلاقى وتمتزج إلا فى ظلال الرغبة فى البذل من الحبيبين. وقد حدث مرة أن أحببت إنسانة حبا شديدا، ولاحظت أنها تتألم عندما ترانى أراهن بمبالغ كبيرة فى "السبق" وأخسر، بل إنها كانت تبكى دون أن تؤنبنى أو تحاول منعى بالقوة، وكانت النتيجة أننى ضحيت بشغفى "بالسبق" وأصبحت معتدلا جدا فى انفاق المال. وكما ترين أن التضحية ترتبط بالاحساس الرقيق فى الحب. والتجاوب الروحى والعقلى مع الاحترام المتبادل بين الحبيبين يحفظ الحب ويمده بالقوة والبقاء، ومما لاشك فيه أن طول التباعد يقتل الحب، ولكن هذا لا يمنع من أن الغياب المتقطع، أو الانفصال المؤقت لمدة قصيرة يبدد الملل ويجدد الاشتياق، والحب الاكيد يظل حيا فى النفس لا يقتله البعد ولا يؤثر فيه شىء غير الموت.

"وهل تهون الكرامة فى سبيل الحب؟!"

- أحيانا ، وأنا لا أسمى التنازل عن الكبرياء أو استعطاف الحبيب تنازلا عن الكرامة. وأحيانا يكون الحب واستمراره وحفظه من الانهيار أهم عند الإنسان من كرامته، بل من نفسه ذاتها.

وهل يحب المرء مرات عديدة، أم يقنع بحب كبير واحد؟!

- أعتقد أن الإنسان يحب فى كل مرة بنفس القوة التى أحب بها فى المرة السابقة، وأعتقد أيضا أن آخر حب هو فى العادة أقوى حب.

هل تستطيع أن تكره إنسانا بنفس القوة التى كنت تحبه بها؟!

- فعلا . أكره فى أى إنسان أن يخون ثقتى ويغدر بى وهو يعلم أننى لا أستطيع الحياة بدونه، وأن هجره لى جدير بقتلى، وعلى هذا فعنصر الكراهية عنده متوفر لهذا لا غرابة فى أن أكرهه بنفس القوة.

ما هى قصة الحب التى عطفت عليها من قلبك واهتززت لها بوجدانك؟!

- قصة اليونانى الذى حرمه أهله من حبيبته وحرمها أهلها منه فما كان منهما إلا أن هربا إلى الجبل وتزوجا.

متى ينتهى الحب؟

- إذا تمسك واحد من الحبيبين بالمستحيل، وإذا حدث الملل وبرزت الانانية وأحس كل منهما بعدم حاجته إلى الآخر. عندئذ يحدث التنافر ثم الفتور ثم القطيعة.

ما هو أجمل شىء فى الوجود؟!

- الحب. والنساء. انهما كل الالهام وكل الجمال فى هذا الوجود وكان سؤالى الآخير الذى وجهته إلى فريد الأطرش هو:

ما هى أمنيتك فى الحب؟!

- أنا أصادف حبى. حبى الكبير الذى تستقر معه حياتى، وأجد الحبيب الذى لا يبيعنى من أجل كلام الناس أو بدافع من أنانيته لكى يرضى الناس ويضحى بى أنا، الحبيب الذى لا يتركنى فى منتصف الطريق غير مكترث بعواطفى. مثل هذا الحب سيكون خالدا حتى آخر أيام العمر.

سكينة السادات

الكواكب 373 23 سبتمبر 1958