قد تختلف الآراء في كل شيء يتعلق بفريد الأطرش، إلا في أمرين اثنين: الأول: انه فنان موهوب تعشقه الملايين والثاني أنه من أشد الفنانين اعتزازا بفنه واعتدادا بكرامته وعرفانا بقيمته ومكانته في عالم الفن الموسيقي!
وكانت _الكواكب_ علي موعد مع فريد، لتضعه أمام قرائها تحت أشعة «أكس» لتظهر لهم ما خفي في جوانحه من شعور وعواطف وفي الموعد استقبلنا فريد في شقته الأنيقة، المنسقة بذوق فنان.. وكان في كامل ملابسه وكأنه علي موعد غرام.
قلت لفريد بعد أن استقر بنا المقام:
- انت متهم بأنك مفسد عظيم.. تحاول أن تفسد المجتمع المصري بأغانيك العاطفية فتحمل الناس بقوة فنك علي ممارسة الحب واحتراف العشق والانقطاع للصد والوصل، فما هو دفاعك؟
- يا لها من تهمة جميلة.. انه اتهام لذيذ فيه معني التكريم والتقدير، وأنا معترف بفضل من اتهموني بهذا الاتهام ويشرفني أن أكون «المفسد الأعظم» للمجتمع العربي كله، إذا كان الافساد مبعثه تحريك العواطف واحياء الوجدان عن طريق الآذان.. وما كان لي أن أبلغ هذه المنزلة لو لم تكن ألحاني نابعة من قلبي وروحي، معبرة أصدق تعبير عما يجيش في الصدور من رقيق العواطف.
و«حبذا لو صححتم الوصف أو بالتعبير القانوني «عدلتم وصف التهمة» فأنا لست مفسدا، بل أنا مترجم أمين أترجم ما في النفوس .. نفوس الشباب والشيب، الرجال والنساء. من عواطف الحب الذي هو اسمي العواطف «لقد أصبت بمرض القلب يا صديقي لأني أذيب هذا القلب وأسيله في كل مقطع من مقاطع موسيقاي، وإذا كان الفنان الصادق يشقي بفنه فأنا أكثر الفنانين شقاء وأشدهم تعبا».
نار الحب!
- أفهم من هذا أنك مؤمن بالحب، بينما تبدو لنا في حياتك لاتكترث به علي الإطلاق.. وكم من مرة رأيناك تعيش في قصة عاطفية ثم تبينا أنها لم تكن غير سراب حب.
- كيف لا أؤمن بالحب وأنا الذي أعيش فيه واكتوي بناره واتدثر بإزاره من قمة رأسي إلي أخمص قدمي؟.. أن حياتي الخاصة ملك لي وحدي ولا أحب أن أشرك فيها أحدا، ولا أن أجعلها موضع حديث علي صفحات المجلات، ولكني أجمل القول بغير تفصيل فأقول إنني من أجل هذه العاطفة النبيلة أذيب قلبي للناس كؤوسا يشربها العشاق وأشرب معهم.
«وأنا أضن بقلبي أن يكون ألعوبة للمطامع، مطامع العابثات اللاهيات وأنا حتي اليوم لم تهدني حساسيتي إلي من تحب فريدا لذاته، لا لماله ولا لشهرته ولا لخدمة يؤديها لها.. لم أجد من تحب حبا مجردا من الغرض، لهذا بخلت بقلبي أن يكون سلعة في سوق السارقات.
- إذن فستعيش عزبا؟
- الفنان مثلي ومثل عبدالوهاب، لا يحب أن يتزوج إلا بعد أن يؤدي رسالته، وبعد أن يعتزل الفن ليتفرغ للزواج ومتاعبه ومشكلاته، وها هو ذا الصديق الكبير عبدالوهاب تزوج فتعذب، ولا أحب أن أدخل في شئونه الخاصة ولكني أحس أنه يعيش في زوابع متصلة.. لقد رأيت ما وقع فيه فاتعظت، واحجمت، وآمنت بأن الفنان يجب أن يعطي فنه كل عنايته، حتي إذا ما شبع منه وآثر أن يخلد إلي الراحة، فله أن يتزوج.
وهذا ما سوف أفعله.. بعد خمس أو عشر سنوات سأتزوج حيث أكون قد أديت للفن حقه من دمي وعقلي وكياني كله.
- قيل إن هناك اتصالات تدور بينك وبين سامية جمال لوصل ما انقطع من صداقتكما..
- مش ممكن.
- من هو أعظم موسيقار في الشرق في نظرك؟
- محمد عبدالوهاب، وأنا.. وأعتبر عبدالوهاب صاحب أجمل صوت في العالم العربي كله.. ان لم يكن في العالم أجمع.. لقد سمعت بعض الموسيقيين يقولون إن صوت عبدالوهاب «مش ولابد» وهذا كلام من العيب أن يقال، فالحقائق لا تدحض بمثل هذه الكلمات الفارغة.
أنا الأول ..
- وما رأيك في فنه؟
- لو ظل عبدالوهاب يغني «القديم» أي الغناء الشرقي المحض الذي غناه «أيام زمان» لما جاراه أحد في العالم كله، ولكنه آثر هذا اللون الذي يعيش عليه الآن.. أما عن نفسي فأنا أعتقد أنه ليس هناك أحد - ولا عبدالوهاب نفسه - يجاريني في لوني الذي اخترته لنفسي في الغناء والتلحين.. ان غنائي شرقي، ولكنه «مودرن» مطعم بروح العصر، من غير تأثر بالموسيقي والألحان الغربية، إذ ليس من المستساغ أن نظل نتغني بالطريقة وبالآلات التي كان يغني بها أجدادنا!
- هل اقتبست في موسيقاك شيئا من الموسيقي الغربية؟
- كانت غلطة واحدة غير مقصودة، فقد حدث أن سمعت قطعة موسيقية أوربية استهوتني إلي حد جعلني أحفظها وأرددها في خاطري و «ادندن» بها في خلوتي حتي علقت بذهني لطول ترديدي لها، ثم حدث أن أخذت في تلحين أغنية، وإذا بهذه القطعة تقفز من عقلي الباطن وتحتل مكانا من اللحن الذي كنت أضعه، ولم أفطن لهذا إلا بعد فوات الأوان .. بعد أن خرجت الأغنية إلي عالم الوجود وتداولتها الاسماع والألسن، وقد حصنت نفسي بعد ذلك ضد الاقتباس فلم أعد أفتح ذهني للحن غريب، وقد وضعت حتي الآن أكثر من 500 لحن أتحدي من يشاء أن يدلني علي لأزمة واحدة مقتبسة.
«وقد آمنت بأن الاقتباس جريمة في حق موسيقانا الشرقية، بل وجريمة خلقية تلتصق بالمقتبس الذي لا يذكر أن لحنه مقتبس من لحن فلان أو موسيقي فلان.
« وأعتقد أن الأستاذ عبدالوهاب وقع فيما وقعنا فيه من الاقتباس ولكنه لم يستطع أن يحرر نفسه من الاقتباس ولكنه لم يستطع أن يحرر نفسه منه فانساق، وترك الألحان الغربية تنساب في أغانيه وموسيقاه حتي أصبح انتاجه «مطعما» ولو استطاع أن يطرد هذا الغريب المتسلل لجاء بأروع ما يمكن أن يهبه الله للفنان.
معجزة
- وأم كلثوم ما رأيك فيها؟ وهل تحب أن تلحن لها؟
- أم كلثوم معجزة، لاشك في هذا، ولكن المعجزة بدأت تبعث علي الملل بعد أن تكررت، أن المحيطين بها لا يحاولون التغيير ولا التبديل لا يحاولون التجديد في ألحانهم التي يقدمونها لها ونحن في عصر لابد فيه من التغيير والتجديد المتواصلين.. وهذا ما كان يجب أن يفعله المحيطون بالمعجزة.
« وبودي لو ألحن لأم كلثوم، أن لدي ألحانا جبارة لا يقوي علي أدائها إلا صوت جبار كصوت أم كلثوم، وقدرة جبارة كقدرتها، وأنا أضطر لحبس هذه الألحان لأني لا أجد من يستطيع إبرازها في قوتها كما تستطيع أم كلثوم».
وهل ذقت الفقر في حياتك؟
ذقت منه ما لم يذقه غيري.. فقد كنا - أنا والفقر - صديقين متلازمين.. جربت البطالة، وعملت كومبارس وموزع اعلانات عند «بلاتشي» وعازفا مأجورا، ومطربا في صالة وفي كل عمل من هذه الأعمال ذقت أشد التعب .. التعب الذي أتعب قلبي حتي مرض هذا القلب من طول ما عاني صاحبه.
- وهل وصلت إلي المجد الذي تنشده.. ووصلت أغانيك إلي المكانة التي أردتها لها؟
- وصلت يا صديقي .. وصلت ألهب من التعب والاجهاد.. وأصبحت اسطواناتي بحمد الله منتشرة في العالم العربي كله.. بل و في أقطار كثيرة غير عربية.. وأقول في صراحة وصدق أن ما يوزع من اسطواناتي يفوق ما يوزع من اسطوانات عبدالوهاب وأم كلثوم مجتمعين.. أقول هذا وأتحدي من شاء أن يثبت العكس.. وأحتكم في هذا الأمر إلي سجلات شركات الاسطوانات.
الكواكب - 236 - 7 فبراير 1956