الأربعاء 29 مايو 2024

ملحن.. ومندوب إعلانات!

16-5-2017 | 09:48

.. انه فريد الأطرش.. الملحن الذي أصبح له اليوم رصيد في البنوك يقدر بثمانين ألفا من الجنيهات.. والفنان الذي أجري منذ أيام اصلاحات في شقته الأنيقة كلفته ألفا وثمانمائة جنيه مصري!.. وبعد.. فيحسن بك أن تأتي معي إليه وأن نستمع إلي حديثه سويا!

وفي ركن من الصالون الفاخر جلست إليه أوجه أسئلة "الكواكب " ..

* قلت له: "من أين جئت وكيف بدأت حياتك؟ ".

فأجاب: " أنا من مواليد بلدة "السويدا " عاصمة الدروز عام 1916، وقد بقيت هناك حتي بلغت الثامنة من عمري، وكان والدي يعمل ضابطا في الجيش برتبة القائمقام.. وأدخلوني مدرسة سان جوزيف ببيروت وكنت "بليدا " في المدرسة ولم أظهر أي تقدم في فرقة الأناشيد.. بل كنت "نكرة " ولله الحمد.

"وجاءت الثورة.. فهربت مع أسرتي إلي مصر عام 1924، وكانت حيرة في اختيار المدرسة التي تؤهلني مواهبي المتواضعة للالتحاق بها.. وكنا فقراء معدمين .. فقد هربت أمي وأخوتي.. وباعت خلال السنوات الأولي من مقامنا في مصر مصاغها وثيابها لكي تشتري بثمنها "لقمة العيش " تطعم بها صغارها.. وأخيرا.. وجدت أمي في مدرسة الفرير المجانية "بالخرنفش " ملجأ لي يقيني من البطالة والتشرد والجهل.. فألحقتني بها.

في مدرسة الفرير

"وعشت في المدرسة مع أقراني.. أشعر بوطأة الفقر وتنبه احساسي بحالتي السيئة واستيقظ ضميري.. مما حفزني إلي أن أسعي جاهدا لكي أكسب قوتي بعرق جبيني.. "واكتشفت أن لي صوتا جميلا وأن أذني موسيقية، فقد كانت أمي تعزف علي العود بمهارة.. ورأيت منذ مولدي "العود " يحتل مكانة بين "عفش المنزل ".. فتعلمت العزف عليه من غير معلم..

"وفي المدرسة .. انضممت إلي فرقة الأناشيد .. واكتشفوا أن لي صوتا صالحا للتراتيل.. ورأيت من جانبي أن أشبع لذتي واغمر احساسي بالاستماع إلي هذه التراتيل.. فكنت أذهب إلي "الكنيسة " لاستمع إليها واشترك في أدائها.. "ثم انتقلت من الأناشيد إلي أغاني عبدالوهاب فحفظت بعض أغنياته مثل : "كلنا نحب القمر " و "سكت ليه يا لساني.. " و "القلب ياما انتظر " .. وغيرها من مقطوعاته الفنية الخالدة..

"رأيت بعدها أن أعمل ملحنا ومغنيا في الصالات.. فعرضت نفسي علي السيدة ماري منصور التي ألحقتني بصالتها لقاء ثمانية جنيهات في الشهر. وبدأت أطمئن إلي هذا الدخل واعتبرته مفتاحا لثروة طائلة مقبلة.. وبدأت ألحن..

جبان

»وكنت جبانا لا أجرؤ علي الاعتراف بأنني "ملحن ".. وكنت أجرب ألحاني مع شقيقتي "أسمهان " وكنت أطرب لها.. ولكني كنت في شك.. هل مبعث هذا الطرب هو اللحن أم الأداء.. أداء أختي ذات الصوت الساحر..

»ودخلت السوق الفني ملحنا متواضعا.. ألحن سرا لعلية فوزي وإبراهيم حمودة ثم اشتغلت عوادا فى تخت الأستاذ إبراهيم حمودة .. وكنت أتقاضي أربعين قرشا في الليلة..

"وتوالت الأيام.. ورأيت أن أشق ميدانا جديدا.. فالتحقت بمحلات "بلاتشي " مندوبا للاعلانات.. وكنت أرافق موزع اعلانات المحلات في مناسبات الاوكازيونات لكى أقدم للناس الإعلام مع كلمة مناسبة عن رخص الأسعار نظير أربعين قرشا في اليوم..!

"وهكذا كنت أوزع وقتي فالدراسة صباحا والعمل مساء حتي حصلت علي الابتدائية!

"واعتبر هذا نصرا لا يعادله إلا نجاحي في إدخال "الأوبريت " في الموسيقي المصرية الحديثة . " .

* وقلت لحامل الابتدائية الهمام : "كيف عرفت كملحن وكيف غنيت في الإذاعة؟ " .

فأجاب: كان الأستاذ مدحت عاصم يبحث عن أصوات جديدة أيام الإذاعة الأولي.. وكنت أعرفه فاستدعاني لكي أعزف عودا منفردا في الإذاعة..

"وفرحت بهذا العرض.. لأن معناه أنني سوف أتقاضي في ثلث ساعة مائة وخمسين قرشاصاغ بالتمام والكمال..!

وكنت أحس بالحسرة تعصر فؤادى عصرا.. فقد كنت أشعر أنني "ملحن ملهم " وأن لي صوتا لا يزيد قبحا عن الأصوات التي هيأ لها القدر والحظ مكانا أمام الميكروفون..

"وذات مساء .. وبعد أن انتهيت من إذاعة عزفي دخلت مكتب الأستاذ مدحت عاصم.. وقلت : "أريد أن أغني في الإذاعة ".. ونظر إلي مدحت عاصم نظرة اشفاق وقال: "كل واحد نفسه يغني في الإذاعة يا أستاذ.. احمد ربنا اللي انت بتضرب عود!

»ولكني أصررت علي طلبى.. فقال لي مغلوبا علي أمره: " إذن سأعرض اسمك علي اللجنة لتؤدي الامتحان امامها ".. وكانت اللجنة مكونة من المرحوم مصطفي رضا، ومحمد فتحي، ومدحت عاصم، وأسمعت اللجنة "سكت ليه يا لساني عن شكوتك " لمحمد عبدالوهاب وقالوا لي: "عال.. صوتك الميكروفوني مش بطال.. ولكن .. أين القطع التي ستغنيها؟!" .

"وأسقط في يدي.. فلم يكن عندي "قطع غنائية " خاصة بي.. وكنت أظن أنه يكفيني أن "أقلد " عبدالوهاب!

أول أغنية

وعدت إلي البيت وعواطفي تضطرم.. وعكفت علي عودي أستلهم وحيي وكان أن غنيت: باحب من غير أمل! ".

وغنيت في الإذاعة.. وذاع صيتي كمطرب "وكنت أتقاض عن كل "وصلة " أربعة جنيهات أدفع فوقها - من جيبي - باقي أجر الفرقة، ثم رأت الإذاعة أن تنصفني فرفعت أجري إلي ستة جنيهات ثم ضاعفت المبلغ.. ثم أصيبت العلاقة بيننا بنوع من الفتور لازال سائدا إلي اليوم.. " .

لون خاص

* وسألته: "هل تظن انك أدخلت تجديدا علي موسيقانا؟ "

فأجاب: "أن لي لوني الخاص مافي ذلك شك .. ويكفي أن تعلم أنني أول من أدخل "الاوبريت " في السينما.. وأول من أدخل نظام "الجاز " وأول من استمع إليه المتفرجون ربع ساعة كاملة دون ملل أو ضيق..

وفي فيلمي الأول "انتصار الشباب " كانت "الأوبريت " هي الفتح الجديد في عالم الغناء علي الشاشة.. ثم أعقبتها في "حبيب العمر " وغيرها وغيرها..

وقد جمعت موسيقاي بين اللون السوري والتركي والدرزي والمصري.. ولم أتأثر بالموسيقي الشرقية القديمة.. لأنني لم أسمعها .. لهذا جاءت موسيقاي مزيجا من كل هذه الألوان..!

هدايا

* وسألته : "ما هوك أجرك عن اللحن الواحد؟ "

فأجاب: أنني أهدي ألحاني إلي الفنانين والفنانات.. لأنني أعتبرها "فوق الفلوس " ولكنني أتقاضي عن هذه الألحان الكثير نظير "حق الأداء العلني " وقد أخذت أكثر من خمسمائة جنيه حتي الآن من إذاعة عن لحن "أهوي.. أهوي " فقط!

* وسألته سؤالا أخيرا: "ما هي أمنيتك في الحياة؟ "

فأجاب: "أمنيتي أن أفتح الراديو علي محطة لندن فاستمع إلي موسيقي مصرية.. وافتح الراديو علي محطات أمريكا فاستمع موسيقي شرقية مصرية.. ولا يهمني لمن تكون هذه الموسيقي بقدر ما تهمني أنها موسيقي شرقية .. هذه هي أمنيتي أن يفهم الغرب موسيقانا ويتعشقونها.. ويخلدونها.. كما نخلد نحن موسيقي "ستراوس، وبيتهوفن، وغيرهما ".

الكواكب 78 - 27 يناير 1953