بقلم – د. كمال حبيب
التنظيمات الإرهابية لديها ما يمكن أن نطلق عليه « تداعيات الفعل الإرهابي «ونقصد بذلك أنها تتخذ في البداية لنفسها عدوا هو الدول ومؤسساتها التي تقوم بالمواجهة معها فهي ترى الدولة التي تنازعها السلطة وتحقق الاستقرار والأمان لمواطنيها عدوا لها لأن تلك التنظيمات في الحقيقة تنشط حيث تضعف الدولة وتغيب ولو قمنا بعمل خريطة في العالم لملاحظة مناطق عمل تلك التنظيمات لوجدنا أنها تعمل حيث تغيب الدولة.
ففى سوريا والعراق وفي إفريقيا جنوب الصحراء بشكل رئيسي وفي اليمن وفي باكستان فى منطقة بلوشستان جنوب غربي البلاد وهى منطقة تنازع وتوتر قومي وعرقي غنية بالغاز والنفط نفذ تنظيم داعش يوم الجمعة الماضي تفجيرا انتحاريا استهدف موكب نائب رئيس مجلس الشيوخ فى محافظة بلوشستان وأسفر عن مقتل ١٧ شخصا .
وفي سيناء حيث يعمل تنظيم داعش يعتبر أن سيناء منطقة فراغ وتقع في الحدود البعيدة للإقليم المصري، وهناك حيث البيئة القبلية وتسود الأعراف القبلية اعتبر الدواعش أن سيناء بيئة مثالية لنظريتهم المعروفة باسم «إدارة التوحش» والتي تسعي للسيطرةعلي جزء من إقليم الدولة وبسط النفوذ عليه وإدارته بالقوة واتخاذه كمنطقة نكاية وإنهاك للدولة المصرية ثم اتخاذ المنطقة تلك من بعد كنقطة انطلاق لما يطلقون عليه «الإمارة الإسلامية» أو الولاية التابعة لمركز التنظيم في سوريا والعراق حيث أعلن خليفتهم المزعوم «أبو بكر البغدادي» دولة الخلافة الإسلامية من الموصل بعد سقوطها في يد التنظيم فى يونيه ٢٠١٤، وقال إنها باقية وتتمدد من مسجد النورى «نسبة إلي نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي» الذي حارب الصليبيين ووحد مصر والشام وفتح الباب واسعا لصلاح الدين الأيوبي للقضاء على الدولة الفاطمة العبيدية الشيعية وأعاد مصر إلى عالمها السنى.
يبدأ التنظيم الإرهابي نازعا نحو الفوضى فيكفر المسئولين فى الدول التي يتخذها عدوة ويعتبر أن مؤسسات الدولة التى لا تحكم بالإسلام أو الشريعة هى مؤسسات ممتنعة يجب قتالها، وقد يكون القتال فى هذه المرحلة أوضح فى عقل التنظيم الإرهابي من فكرة التكفير فينزع إلى استهداف المؤسسات الأمنية والسيادية باعتبارها درع الدولة وحاميتها والمسئولة عن مواجهة التنظيمات الإرهابية وتحقيق الأمن والاستقرار لمجتمعاتها وهى فى التحليل النهائي عنوان هيبة الدولة ومكانتها وقدرتها ورمزية الثقة فيها لدى مواطنيها، لكن التنظيم لا يلبث أن ينتقل من المواجهة العسكرية مع الدولة إلى تكفير من يقاتلهم وهنا ينتقل لمرحلة جديدة من مراحل إرهابه .
وقد فعل تنظيم داعش ذلك فعلا .. فهو اعتبر الدول جاهلية ومؤسساتها مقصودة بالقتال وأفرادها مقصودين بالقتل، ثم انتقل لمرحلة تكفير الأعيان والأفراد المنتمين لتلك المؤسسات ووسمهم رغم كونهم مسلمين بالردة وأصبح يصدر بياناته ليقول المرتدين وجيوش الردة .. الخ .
ثم لا يلبث التنظيم في سياق صراعه الدموي وفى سياق خياله المريض بهاجس السلطة وفرض السطوة والنفوذ وتحقيق التوحش والقسوة أن ينتقل إلي فئات ليست طرفا في صراعه مع الدولة كالقضاة وهم عادة لا يُستهدفون باعتبارهم خارجين عن معانى الصراع أصلا ، ثم ينتقل بعد ذلك لتطبيق سطوته وتحقيق ما يطلق عليه التوحيد الخالص، وفكرة الخلاصية والمجتمعات التمامية هي الهاجس العميق للعقل الإرهابي وتنظيماته ومن ثم ينتقل إلي جعل المجتمع والمحيط الاجتماعي المحيط به يلتزم بخططه لبناء دولته الجديدة القائمة على تصورات بناء مجتمعات خالصة وتمامية فيبدأ بفرض أنماط سلوك معينة على الناس مثل منع السجائر والتدخين ومنع المقاهي وأماكن الحلاقة ومنع أماكن الترفيه والموسيقي وغيرها باعتبارها حراما ، كما يفرض على المرأة الحجاب والاختلاط وضرورة الالتزام بقواعد ومدونات السلوك الذي يفرضها التنظيم على الناس، وهم في الحقيقة ليسوا بحاجة لتلك المدونات لأن سيناء بطبيعتها القبلية تعرف بالفطرة والتقاليد من قبل مجئ التنظيم إليها كيف تتصرف ولديها قواعدها المحافظة ونساؤها يرتدين الحجاب ويلتزمن بقواعد السلوك الإسلامي دون حاجة من تدخل التنظيم الإرهابي، بيد إن سطوة العقل القهري الإرهابي تجعله يتصور أن يعيد بناء العالم وفق قواعده هو بالقوة والسطوة والتوحش
ثم لا يلبث التنظيم أن يواجه المجموعات المتصوفة في سيناء، والتصوف في سيناء هو تصوف سني لا يعرف البدع ولا الدروشة ولا السحر كما اتهم التنظيم شيخ القبائل السيناوية هناك «سليمان أبو حراز» وعمره ٩٨ عاما بالكهانة وقام باختطافه من منزله في العريش وتنفيذ حكم الإعدام فيه بعد أن ارتدي بدلة برتقالية كشأن التنظيم في بث الرعب والخوف في نفوس الناس وبث فيديو تنفيذ حكم الإعدام في الرجل دون أن يطرف لهم جفن .
وبعد قليل ذهب يتوسع في مواجهة فئات من المجتمع السيناوي وكان الهدف هذه المرة مسيحيي سيناء بشكل مكثف ومركز حيث قتل بوحشية سبعة مسيحيين مرة واحدة ، وهو ما أدى إلى نزوح جماعي لأربعين أسرة مسيحية كانوا يقيمون في مدينة العريش إلي مدينة الإسماعيلية، صحيح كان التنظيم يستهدف بشكل متقطع رموزا دينية مسيحية كالقس رفائيل موسي كاهن كنيسة مار جرجس بالعريش في يونيه عام ٢٠١٦ .
هنا توسع التنظيم في مواجهة المجتمع وليس فقط الدولة وهو هنا التنظيم الإرهابي يرقص رقصات الجنون والدم الشبيهة بفاقد العقل أو المجنون حيث يريد مشاهد للدماء تتسع بشكل مستمر لا يتوقف، وحين لا يجد ما يفرغ فيه مشاهده الدموية فإنه يتجه لأعضاء التنظيم أنفسهم لمحاسبتهم بل وقتلهم بسبب عدم التزامهم بأفكار التنظيم .
أخيرا وفي سعى التنظيم لتحقيق السطوة والسيطرة على الأطراف التى له تواجد بها في منطقة شرق العريش حيث منطقة الشيخ زويد ورفح وحيث الانحراف جنوبا قليلا إلي وسط سيناء فإن التنظيم بدأ التوسع في المواجهة وفق رؤيتنا لما أطلقنا عليه تداعيات السلوك والعقل الإرهابي الذي تقوده دائما متوالية العنف والإرهاب نحو مزيد منه، ومن ثم دخل في مواجهة مع قبيلة الترابين التى تعد أكبر قبائل سيناء فتعداد سكانها في شمال سيناء والعريش يصل لحوالي ٧٠ ألفا، بينما يبلغ تعداد القبيلة الكلي حوالي نصف مليون منتشرون في النقب وفى الأردن وفي غزة وفي مصر ينتشرون في الشرقية وفى السويس وفي الإسماعيلية وفي الجيزة وفي القاهرة نفسها آخر المعلومات تفيد بأن تنظيم داعش في سيناء قتل أكثر من عشرة أفراد من قبيلة الترابين كانوا ينصبون حاجزا في جنوب رفح وقد هاجم التنظيم كمينهم ، ومن بين من قُتل من أبناء القبيلة أحد قيادييها «سالم لافى» ، وكانت قبيلة الترابين قد عينت متحدثا رسميا باسمها « موسي الدلح « وأصبح للقبيلة موقعها وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي ، وتدخل القبيلة في مواجهة مفتوحة الآن مع التنظيم الإرهابي الخطير وتقول بياناتها بأن الجيش المصري يدعمها، وتشير بعض ملصقاتهم في خطابهم للتنظيم «ياداعش أنا ترباني .. أنذرتك ولم تسمع كلامي .. خذها مني وأنا الترباني» .
يبدو التنظيم داخل في مشاكل عميقة هنا مع المجتمع الذي يعيش داخله، وهو نفس ما حدث فى العراق مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الذي دخل فى محاولة لفرض نموذجه علي القبائل السنية فى العراق فواجهته تلك القبائل حتي قصمته فيما عرف وقتها بظاهرة الصحوات حيث وظف الأمريكيون قبائل السنة في مواجهة التنظيم .
مؤشر تحول العقل الإرهابى إلي مواجهة مفتوحة مع أكبر قبيلة بدوية في شمال سيناء وإعلان توحد القبائل جميعها ضد التنظيم يعد خطوة مهمة نحو حصار التنظيم، بيد أن اللحظة مناسبة لإعلان انحياز حقيقي من جانب القبائل البدوية إلي جانب الجيش المصري ومد الجيش بالمعلومات التي تمكنه من تعقب أفراد التنظيم، والتدخل الضروري جدا والمحدود حيث لا يمكن للجيش وحده أن يتدخل في مناطق الأحراش والقري البعيدة والدروب، أما السماح للقبائل بأن تدير صراعا مفتوحا مع التنظيم بعيدا عن وجود الدولة والوجود بقوة فإن ذلك يفتحنا على مخاطر ليس أقلها أن قطاعا من المجتمع والمواطنين المصريين يواجه قطاعا متمردا على الجانب الآخر يمثل تهديدا له وتهديدا للمجتمع بيد إن يد الدولة والجيش المصري يجب أن تبقي هى العليا، وأن يظل القانون هو الحاكم فى العلاقة بين المواطنين والدولة ، ويمكن التفكير فى المستقبل بأن تكون هناك وحدات داخل الجيش المصري وجزءً من وداخل الشرطة أيضا من أبناء سيناء وقبائلها وأن تقوم تلك الوحدات بالمواجهات المطلوبة مع تلك التنظيمات الإرهابية بحيث تكون جزءا من عقيدة المؤسسات الأمنية والسيادية وليس عقلية القبائل .