استكمالا لدراسته عن "مسئولية الأمم المتحدة وحقوق مصر التاريخية فى مياه نهر النيل وعداون إثيوبيا على قواعد الأنهار" أجرى المفكر المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة بحثاً مستجداً عن "معايير مجلس الأمن فى الحل السلمى للسد الإثيوبى ونظرية المصالح المتضاربة".
ونعرض بالجزء الثانى ديباجة ميثاق الأمم المتحدة تلزم مجلس الأمن إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب وتحقيق العدالة الدولية، وأن مجلس الأمن تحكمه نظرية المصالح المتضاربة باعتراف رئيس الجمعية العامة وبعض الدول الخمس دائمة العضوية وأنه ترهل فى أداء دوره فى حفظ السلم والأمن الدوليين ومضى على إنشائه منذ ما يقرب من خمسة وسبعين عامًا هى عمره بذات التشكيل للدول الخمس دائمة العضوية ويحتاج صياغة جديدة لاصلاحه وفقا لما يلى:
أولاً: ديباجة ميثاق الأمم المتحدة تلزم مجلس الأمن انقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب وتحقيق العدالة الدولية يقول الدكتور محمد خفاجى إن ديباجة ميثاق الأمم المتحدة الصادر بمدينة سان فرانسيسكو في 26 يونيه عام 1945 الزمت منظمة الأمم المتحدة بكافة أجهزتها وعلى قمتها مجلس الأمن إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، والايمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية.
وتبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي , وأن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وترفع مستوى الحياة، والتسامح، والعيش معاً في سلام وحسن جوار، كل ذلك من أجل أن تحتفظ بالسلم والأمن الدولي من كل ما يمسهما . ثانياً : مجلس الأمن تحكمه نظرية المصالح المتضاربة باعتراف رئيس الجمعية العامة وبعض الدول الخمس دائمة العضوية يذكر الدكتور محمد خفاجى أنه لا شك فى بيان أهمية دور مجلس الأمن في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين , إلا أن مرور 75 عاما على انشائه شهدت البشرية تطورا هائلا تبدلت فيها موازين القوى العالمية بحيث صار تشكيل المجلس الآن لا يعبر تعبيراً حقيقياً عن إرادة المجتمع الدولى، ولملاحقة سنة التطور بات من الضرورى إعادة بعث الفعالية لهذا المجلس لينشط بأداء دوره لتحقيق السلم والأمن الدوليين ومبدأ العدل والمساواة بين الدول وتلافى قدر الإمكان المصالح المتضاربة للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
ويضيف أن المتتبع لجلسة مجلس الأمن حول السد الإثيوبى وتضرر دولتى المصب مصر والسودان من التصرفات الأحادية لإثيوبيا دون تفاوض أو اتفاق وبالمخالفة لقواعد الشرعية النهرية فإنه يجد أنه لم يقم بالدور المأمول منه فى الوقت المناسب نحو حفظ السلم والأمن الدوليين تجاه المخاطر التى يسببها السد الإثيوبى فى غيبة من اتفاق مع الدول المتشاطئة.
وهو ما يثير مدى فاعلية جهاز مجلس الأمن الدولى فى العصر الحديث التى بدأت تتضائل انبثاقاً من نظرية المصالح المتعارضة للدرجة التى اعترف رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة فولكان بوزكير بعدم فاعلية مجلس الأمن – أثناء جلسة نقاش نظمتها الجمعية العامة للأمم المتحدة الإثنين 17 نوفمبر 2020 بانتقادات للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن بسبب المصالح المتضاربة لأعضائه والاستخدام المتكرر لحق النقض – الفيتو - مما حد من فاعلية مجلس الأمن ومسئوليته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين - والتى نشرتها وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب - إذ قال رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة : " إن مجلس الأمن فشل في مناسبات عدة في تحمل مسئوليته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين , حتى في بعض الأزمات الإنسانية الأكثر إلحاحاً، فشل مجلس الأمن في توفير استجابة مناسبة وفي الوقت المناسب. وهذه انتكاسة خطيرة للمبادئ التأسيسية للأمم المتحدة وجهودنا المشتركة لبناء عالم يسوده السلام" وأضاف رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه " إذا كانت الأمم المتحدة في حاجة إلى إصلاحات أعمق، فمن الواضح أن إصلاح مجلس الأمن أمر حتمي، وفي الوقت نفسه صعب وضروري".
ويشير الدكتور محمد خفاجى أن أمر توجيه النقد والقدح إلى جهاز مجلس الأمن فى تقصيره تجاه مسئولياته نحو حفظ السلم والأمن الدوليين لم يقتصر على جهاز الجمعية العامة للأمم المتحدة على لسان رئيس الجمعية الدولية , بل امتد إلى رؤساء إحدى الدول الخمس دائمة العضوية وهى فرنسا فقد قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - خلال مقابلة له مع مجلة - لوغران كونتينان- " أن مجلس الأمن لم يعد ينتج حلولاً مفيدة" وكان ذلك بمناسبة دعوته لإعادة فرض القيم الأوروبية لكى تكون أوروبا قوية فهو الاحتمال الوحيد - من وجهة نظره - لتجنب الاحتكار الثنائي الصيني-الأمريكي.
كما أن دولة ثانية من الدول الخمس دائمة العضوية هى الصين انتقدت مجلس الأمن التى قالت على لسان السفير الصيني جان جون : "إن التمثيل مبالغ به للدول المتطورة ويجب وجود أكبر للدول الصغيرة والمتوسطة لاسيما الإفريقية منها , إذ أكثر من 60 دولة لم تكن يوماً عضواً في مجلس الأمن، وبعض الدول الصغيرة لا تتمكن من المشاركة فيه إلا كل 50 سنة ". بل وصل الأمر أن تقوم دولة متقدمة مثل ألمانيا بتوجيه عبارات السخرية المهينة إلى مجلس الأمن ذاته بالقول: "الجميلة النائمة بانتظار قبلة تنعشها." ثالثاً : مجلس الأمن ترهل فى أداء دوره فى حفظ السلم والأمن الدوليين ومضى على إنشائه منذ ما يقرب من خمسة وسبعين عاما هى عمره بذات التشكيل للدول الخمس دائمة العضوية ويحتاج صياغة جديدة لإصلاحه: يقول الدكتور محمد خفاجى إن الرأى عندى أن مجلس الأمن قد ترهل فى أداء دوره فى حفظ السلم والأمن الدوليين وقد مضى على إنشائه منذ ما يقرب من خمسة وسبعين عاما هى عمره بذات التشكيل للدول الخمس دائمة العضوية،
وفقا لنص المادة 23 من ميثاق الأمم المتحدة، وقد بدا هذا الترهل واضحا حينما تخلى عن دول العالم فى أحلك الظروف الإنسانية التى مرت على البشرية حينما مُنيت بوباء فيروس كورونا، فلم ينشط إلى ممارسة دوره الحقيقى لبسط مزيد من الحماية المتصلة بالسلم والأمن الدوليين الناجمين عن تفشى هذا الفيروس الذى راح ضحيته ملايين البشر.
ولم يعقد سوى عدد ضئيل من الاجتماعات التى تهدف إلى تكريس حماية الدول فى مجال مكافحة هذه الجائحة العالمية، بل إن مجلس الأمن ذاته ظل عاجزاً لأكثر من 3 أشهر عن حسم الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين بشأن الاتهامات المتبادلة بينهما فى هذا الملف الخطير عن أساس ومنبع تفشى الوباء، ثم أنه بعد ضياع مدة تزيد على 3 أشهر دعا الدول الأعضاء إلى مزيد من التعاون الدولى، ولم يجد حراكا له سوى تدعيمه وتأييده لدعوة الأمين العام للأمم المتحدة إلى وقف إطلاق النار فى البلدان التى تشهد نزاعات لتسهيل مكافحة فيروس كورونا.
ويضيف الدكتور محمد خفاجى ثم إن مجلس الأمن تنبه إلى عقد اجتماع فى فبراير 2021 أثمر عن قراره رقم 2565 لسنة 2021 بشأن عدالة توزيع لقاحات كورونا حول العالم، ثم أنه بعد 5 أشهر بالتمام والكمال عقد منذ أيام قليلة بجلسة 26 يوليو 2021 - أى بعد وقت طويل من انتشار الجائحة – جلسة تشاورية بناء على طلب بريطانيا حول معوقات تنفيذ قراره رقم 2565 الصادر فى 26 فبراير 2021 بشأن عدالة توزيع لقاحات كورونا حول العالم خاصة فى البلاد الأقل نموا والمناطق التى ينتشر فيها الصراعات بعد تقصير طويل الأجل على مسرح الحياة الدولية أظهر الغياب التام لعدالة التوزيع بين الدول الرابية والدول النامية بين الدول الغنية والدول الفقيرة،ومن ثم فلا يُستغرب من مجلس الأمن – وهذا حاله - عدم حسم ملف السد الإثيوبى فى الوقت المناسب قبل استفحال الخطر وبالإجراء الملائم.
ويشير إمعانا فى عدم احترام قرارات مجلس الأمن لعدم تمثيله لتوازن القوى الحديثة ضمن تشكيله تمثيلا حقيقيا، فإنه فى أول أكتوبر 2020 أعرب مجلس الأمن الدولى عن قلقه إزاء التصرف الأحادى بإعلان تركيا عن خطة لفتح ساحل فاروشا - هى مدينة تقع على الطرف الشرقى لقبرص- ودعا فى بيان رئاسى تركيا إلى التراجع عن هذا القرار، وتجنب اتخاذ الأطراف لأى إجراء أحادى الجانب يمكن أن يثير التوترات فى الجزيرة.
ورغم ذلك وبعد عام فلم تلق تركيا بالاً لمجلس الأمن ولا بياناته الرئاسية , وقرر الزعماء الأتراك والقبارصة الأتراك فى قبرص فى 20 يوليو 2021 إعلانا بشأن إعادة فتح جزء من منطقة فاروشا المغلقة.
فما كان من مجلس الأمن فى 23 يوليو 2021 سوى أن أدان بالإجماع إعلان الزعماء الأتراك والقبارصة الأتراك المشار إليه وأعرب عن أسفه العميق لهذه الإجراءات أحادية الجانب لتركيا التى تتعارض مع قراراته وشدد على أهمية الاحترام الكامل لقراراته وتنفيذها، إلا أن تركيا لم تحترم قرارات مجلس الأمن بل صرحت برفضها وانتقدت مجلس الأمن ذاته من خارجيتها بحجة "أن المجلس يصر على عدم رؤية الحقائق على الأرض فى قضية قبرص " – وهو قول يمثل بهتانا – حتى وصل ضعف مجلس الأمن أن تركيا نصبت من نفسها حكماً لقرارات مجلس الأمن بقولها الباهت "لا قيمة لحديث الاتحاد الأوروبى عن القانون، وهو الذى اعترف بشكل غير قانونى بالجانب القبرصى اليونانى فى الاتحاد الأوروبى".
ويستدل من هذه المواقف الدولية أن مجلس الأمن فى حاجة ماسة إلى صياغة جديدة لاصلاحه على الأقل أن يضمن فى تشكيله القوى الدولية المستجدة غير تلك التى اعتمد عليها منذ الحرب العالمية الثانية حتى يكون فاعلا فى حفظ السلم والأمن الدوليين بشكل يناسب أدوات العصر!
وسنعرض فى الجزء الثالث من دراسة المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة عن "معايير مجلس الأمن فى الحل السلمى للسد الإثيوبى ونظرية المصالح المتضاربة".