السبت 1 يونيو 2024

تحويل القبلة

19-5-2017 | 15:26

بقلم : د.عبد الله النجار

ظل النبي  - صل الله عليه وسلم-  والمسلمون يتجهون في صلاتهم نحو المسجد الأقصى سبعة عشر شهرا منذ أن شرعت الصلاة في الملأ الأعلى عند سدرة المنتهى، وذلك وقت أن عرج به  -صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات العلا, وكان انتهاء السبعة عشر شهرا يوم الثلاثاء الموافق للخامس عشر من شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة, ذلك الشهر الذي اكتسب مكانته من ذلك الحدث الجليل، وكان النبي  -صلى الله عليه وسلم-  يؤدي صلاة الظهر في مسجد بالمدينة يقع قرب جبل أحد سمي بعد تحويل القبلة (مسجد القبلتين) فقد كان النبي  -عليه السلام-  يصلي فيه بالمسلمين جهة المسجد الأقصى، ولما أمر بالتوجه إلى المسجد الحرام تحول في الصلاة جهة الكعبة وتحول المسلمون معه نحوها وذلك حين نزل عليه قول الله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره", وجاء تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة تنفيذا لهذا الأمر الإلهي الذي لا يملك الرسول أن يخالفه, ولهذا أخطأ المشركون خطأ يزيد على ما هم عليه من معاندة لدين الله ومكابرة للإيمان به حين سخروا من المسلمين وقالوا كما حكى عنهم القرآن الكريم:  "ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"، فسماهم القرآن سفهاء، وذلك قبل هذا القول الكريم فقال: "سيقول السفهاء من الناس ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"، فكان وصفهم بالسفه مناسبا لذلك التساؤل الذي لا يقصد به طلب العلم بشيء، ولكن يراد به الهزء والسخرية من شيء شرعه الله وأمر به وهو تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة.

ومن حق المسلمين أن يفرحوا بتحويل القبلة فرحا يليق بجلال المناسبة وقيمتها في التاريخ الإنساني، لأن التحويل في ذاته، يدل على أن ثمة موافقة في التوجه مع كافة الأديان، وأن الإسلام حين نزل على خاتم النبيين محمد-  صلى الله عليه وسلم-  لم يكن يخالف ما سبقه من الأديان في التوجه نحو المسجد الأقصى في الصلاة التي تمثل عماد الدين في كل الأديان كما أن تحول المسلمين إلى الكعبة في الصلاة، لم يكن معاندة للأديان السابقة, أو خروجا على المبادئ التي نزلت من عند الله على النبيين السابقيين، وإنما جاءت متفقة مع الدين الخاتم الذي سيتطلع بهداية الناس وفقا لمبادئه العامة وتشريعاته المتحددة وفقا لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، ومن ثم كان هذا التحول إيذانا بطبيعة هذا الدين الخاتم، وأن يتفق مع الأديان السابقة في المبادئ التي تتكفل بهداية الناس إلى الله، ويستقل بذاته في القيام بتلك المهمة بعدها على أساس أنه هو الدين الخاتم، ومن ثم فإن تحويل القبلة يعني الاستقلال الذاتي للإسلام وأنه المتكفل بنشر مبادئ الحب والخير والتسامح بين الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا يقتضي الاختفاء من المسلمين وكافة المتديين.

وللحدث مقصد آخر لا يقل عن إبراز هوية الإسلام كدين خاتم يكفل للبشرية من مبادئ الخير والتسامح ما تكفله كافة الأديان السماوية، وهو تحقيق هدف من أهم أهداف القرآن الكريم، وهو تمحيص الإيمان، ذلك أن الله أنزل كتابه الخاتم لتحقيق هدفين كل واحد منهما لا يقل أهمية عن الآخر، أولهما: حفظ الإسلام, وثانيهما: تمحيص الإيمان، وحفظ الإسلام يتمثل في صيانة أدلته من أي الذكر الحكيم التي تفيد مشروعية تلك الأحكام، وذلك مع أدلة التشريع الأخرى كالسنة المطهرة والإجماع والقياس وغيره من الأدلة المختلف فيها وهي العرف والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها .

وأما تمحيص الإيمان المقصود بحادث الإسراء والمعراج فهو الذي أشار إليه القرآن الكريم في قول الله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم", وتمحيص الإيمان بناء على هذا القول الكريم يعني الخضوع لأوامر الله تعالى فيما يشرعه من الحكام ومنها تحويل القبلة للكعبة، فإن الامتثال له واجب، كما أن المناكفة فيه  -كما فعل المشركون وضعاف الإيمان - دليل على هشاشة الإيمان، وبهذا يعلم المؤمنون حقيقة الناس ومدى صدق إيمانهم، وذلك من مقاصد هذا الحدث الجليل.