الأربعاء 5 يونيو 2024

النعجة.. البنت الجميلة سابقا

20-5-2017 | 13:00

جلاء الطيري - قاصة مصرية

   تبدو لي كحلم لاح لروحي النزقة أستجير بك من رمضاء تحاصرني من مسخ يتلبسني، كيف لك؟! أنت البعيد تدق طبول الحرب على حياتي المسيجة بذكور لهم قلوب غلاظ، لا يرون فيّ سوى إثم وخطيئة إن لم يستطيعوا وأدي فلأكن لعُبتهم الطينية، يُشكلونها كيفما شاؤوا. هذا حال ذكورى أما أنت لا أدرى من أى الأجناس أتيت، تساؤلات عدة أرهقت عقلى الصغير بينما أصابعى أُبعثرها ما بين الصفحات فتخذلنى وتُعاود البحث عنك، أُهدئ من روع قلبى الذى يركض إليك يسابق عينىِ التى تُبصر اسمك.

   يوما بعد يوم صرت أتلوك كصلاة أعرفُ أنك لا تؤمن بشيء لا عقيدةَ لديك، سوى قناعتك تُجاهر بأنك محض إنسان أوجدته الطبيعةُ وحين يفنى لا شيء سوى تراب تُعيد الطبيعة غربلته مرة أخرى تعيش الحياة بكل ما فيها من ملذات وكأنك تقول لأمثالى "موتوا بخوفكم". وأنا المؤمنةُ الغارقة في غيبياتى لا ألزم نفسى بالتفكير في ما ورثته من معتقدات أتقبلها كما هي, أصدق ضاربة الودع، أرتعب إن حذرتنى من شيء، أعدل من وضع الحذاء المقلوب، أطيع زوجى طاعة النعجة لراعيها، أتغاضى عن بذاءته، أهتم بترتيب بيتى، أقرأ أذكار الصباح والمساء، أودعُ زوجى بلا إله إلا الله, يقولها في عُجالة محمدا...

   مللت التلفاز وبرامجه المعادة، غير مسموح لى بزيارة الجارات أو التحدث إليهن، واحدة فقط من قريبات زوجى زارتنى في البيت، حدثُتها عن الفراغ، حدثتنى عن الفيسبوك, حاولتْ أن تفتح أبوابى المغلقة فأوصدتها، عملا بنصيحة أٌمى "لا تعطى أسرار بيتك لأحد". حدثتنى مرة أخرى على الفيسبوك.

   وقتى مكتظ بالفراغ. اختبأت وراء أخرى غيرى فكنت الفراشة الحائرة، السن عشرون عاما، مهتمة بالرجال والنساء. ضغطة زر بالخطأ وضعتنى على قائمة أصدقائك...

  تم قبول الصداقة.

   الذى دفعنى لتصفحك أنك لا تشبه ذكورى ذو الوجوه المتهجمة، لك ابتسامة عرض السماء، أسنانك ناصعة البياض، كلامك الذى لاسقف له، تحدثك عن المرأة وكأنها هواء تتنفسه، يرتفع السهم لأعلى، تتدفق عليّ أشياء ليس بوسعى تحملها. أخجل من عينى التي ترقب جسدك الفارع، دخان سجائرك يتخلل مسامى كضوء شفيف، أصابعى النزقة تواصل الضغط والتجول.

 حول...

 يعمل لا شيء

يٌقيم بالإسكندرية

أعزب ولن يتزوج أو يفكر في الزواج

الصور...

 صور لك ولآخرين

الأصدقاء المشتركون لا يوجد...

الكتب

 العلمانية الجزئية، العلمانية الشاملة و...

الوقت يركضُ كأرنب عفىٍّ، لقد اقترب مجيء زوجى...

   دقَّ جرس الباب، انتفضت كمن لدغتُه عقرب، أنا لم أفعل شيئا ولكنه الخوف المتعاظم الذى صار رفيقا لى، أفتح الباب بيد مرتعشة.

مالك.. ألم تسمعى؟

أبدا ولكنى كنُت... كنت في الـ...

لم يهتم بمكان وجودى.

 خلع ملابسه لفوح أنفاسه رائحة نتنة. ربما رائحة الجوع.

أُحضر لك الغذاء؟

لا...

لأول مره أرى أسنانه الصدئةَ والتي يُخفيها شارب كثيف... و... و...

ماذا بك؟! لماذا تنظرين إلىَّ هكذا!؟

   ثمة أيام أود اقتلاعها من داخلى. دعكت جسدى بشدة كى أتخلص من رائحته العالقة بى. ارتديت ملابسى، تأملت نفسى في المرآة، أزعجنى شخيره، لملمت بقايا سجائره المتناثرة على الأرض.

    كيف لى أستعذبُ رائحة سجائرك التي تخترق المسافات لتصل إليّ، وتخنقنى رائحة سجائر زوجى، أكاد أتقيأ، أهى رائحة السجائر المختلفة، أم رائحة مدخنيها؟

   ضبطَّنِى أٌفٌكر فيك مرة أخرى، لقد عجزت كل دفاعاتى في صدك، ما هذا الحمق أهواك، وكل ما فيك بعيد عنى، أفكارك، مكانك، حتى السماء التي تظلك بعيدة عنى. "وكثيرا ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة وهو أن يعشق المرء صورة لا يعلم من هي ولا يدرى لها اسما أو مستقرا".

   فكرت كثيرا أن أكفر عن وزرى بأن أمحوك وأستلك من داخلى. أليس العشق فى عُرفهم وزرا وخطيئة؟ ولكن بدلا من ذلك وجدتى أدخل على أصدقائك واحدا تلو الآخر، وأضغط إضافة صديق، يقبلون صداقتى بالتبعية صار أصدقاؤك أصدقائى، حظرت من عرفتهم قبلك. حجابى قبل مماتى, كونى له خادمة يكن لك سيدا, الساجدة لربها الطائعة لزوجها، زوجى جنتي.

   لا أعلم عدد الأيام والشهور التي مرت على معرفتى بك. دون أن تدرى أن هناك في البعيد واحدة قد عبرت بها إلى دنيا أخرى. أعلمُ أننى بالنسبة لك محض اسم الفراشة الحائرة، ما عدتُ حائرة أو خائفة، تبا لى كيف لم أعرفك منذ بداية مهدى، كيف لم أرب على يديك، أنا التي تملك فهما مشوشا وبليدا عن الحياة، صفحتك صارت وِردى الذى أتلوه كل صباحٍ ومساء، طقسى الذى أُمارسه، أتزين لك، أفك ضفائرى، أكبُّرُ وضع الصورة، أتلمسك، لا تُفلح برودة الهاتف في منع الدفء الذى يتسلل إليّ.

"نحن خياراتنا" بول سارتر.

هذا ما كان على صفحتك اليوم.

   أنا لم يكن لى الخيار في شيء، ولدت في أسرة تقدس الذكور، فكنتٌ وحيدة بين ذكرين أنا أكبرهما، يبالغان في ممارسة دورهما الذكورى لا تخرجى من البيت، ملابسك ضيقة، صوتك عالٍ...

    هذان الأعميان ألا يدركان أننى لا أغادر محبسى وأن ثيابى من فرط طولها أكاد أتعثر فيها، وفوق رأسى أطنان من الخوف المتوارث يجعل عينيّ تثقبان الأرض فالبنت المهذبة لا يرتفع نظرها من الأرض هذا قول أمى. مع الوقت أخذ رأسي وضعية الانحناء صار متصلبا أخاله سيكسر إن ارتفع لأعلى، قتب صغير نبت على ظهرى بدأ ينمو ويكبر معى.

   الجامعة دخلتها بعد توسلات عدة، وافق أبى على مضض، ازداد انحناء ظهرى بشكل ملحوظ، أتعثر في ثيابى التى تجر معها كل قاذورات الشارع، يشتبك حذائى مع ثوبى، أنبطح على وجهى، أسمع ضحكات الطلبة التي تبدأ همسا ثم تصير ضجيجا يثقب أذنى، أم قتب جاءت، أسمعها كلما ولجت باب المدرج، حرصت أن أكون أول الداخلين قبل موعد المحاضرة بساعة، رغم أن المدرج كان شاغرا إلا منى ألا أننى حرصت أن أكون في آخِرِه، في ركن مستتر وراء أحد الأعمدة حتى أتحاشى سخريتهم. وكما دخلتها خرجت منها، إلا أننى تسلمتُ مع الشهادة لقبى الجديد الذى صار لصيقا بى أم قتب.

   لم تمضِ شهور عدة حتى طرق بابنا جارنا موظف في شركة الكهرباء يحمل شهادة متوسطة يكبرنى بخمسة عشر عاما، وافق أبى على الفور دون شروط، وكأننى هم يُثقل كاهله يريد أن يتخلص منه وأنا المتسربلة بخوفى رأيت فيه خلاصى حائطى الذى أسند عليه متاعبى، طمأنت نفسى فالقادم ليس أسوأ مما أنا فيه يكفى أنه فكر في الزواج منى.

  أنا لست جميلة بما يكفى لجعل الرجال يتهافتون على. في الشهر الأول من زواجى، امتدت يده عليّ بالضرب، لأننى تجرأت واستقبلت ابن أخيه في غيابه، حاولت إفهامه ولكنه عصيٌّ ككل الذكور في حياتى يأبى الفهم، ذهبت إلى أبى غاضبة، شكوت له، توهمت أنه سينصفنى ولكنه كعادته خذلنى قائلا: إننا ككل النساء ضلع أعوج لا يستقيم إلا بالضرب. وبخنى وأفهمنى أننى نعجة تساق وراء راعيها، دخلت بيت أبى زوجة غاضبة وخرجت منه نعجة.

   ما الضير أن أكون نعجة، النعجة أم حدب ياله من لقب، كم أنا متفردة أخذنى زوجى، أقصد جرنى وراءه، حدقتُ في ظلى المرتسم على الأرض كان مقوسا، ازداد انحناء ظهرى حتى ظننت أن وجهى سُيلامس الأرض مازلت أملك بعض القدرة على الغضب، لعنت زوجى وأبى، لعنت كل الذكور، بصقت عليهم في سرى، صراخى المكتوم أثقل صدرى، شعرت بأنفاسى تهرب منى، وددت لو فككت يد زوجى وهربت منه لتأكلنى الشوارع، ولكننى ككل مرة، جبنت ورحت أحدق في ظلى المتقوس.

  أختى المسلمة كونى زوجة صالحة، قال القرطبى رحمه الله.

  "باب من أحب بالوصف، قد يقع الحب بالوصف دون المعاينة".

   لقد أحببتك بالوصف، والنوم، والمعاينة، أحببتك بكل أبواب ابن حزم ولو أنهُ بيننا الآن لأضاف بابا جديدا، باب من أحب بالفيسبوك.

    "لقد علمنا أنه لا بد لكل مجتمع من افتراق ولكلِّ دان افتراق". أي الطرق الوعرة سلكت لتحولنى لأُخرى، أنت لا تعلم بوجودى، أنا بالنسبة لك مجرد اسم لا يشغل حيزا من وقتك.

سأتجرأ وأخبرك سأفعلها...

أعددتُ نفسى...

ضغط على رسائل، لوحة الحروف تداخلت في عيني...

ماذا سأكتب لك؟!

   تركت الهاتف توجهت إلى المرآة, أهذب من وضع شعري، أشعر أنك ترانى وأن للهاتف عيونا ثاقبة تتسلل إليَّ منها. يالله كم أنا جميلة، لماذا لم أدرك أننى جميلة هكذا؟

  صار ظهرى مستقيما، اختفى تقوسه.

  على ضوء اللمبة الخافت رأيت ظلى مستقيما، نصبت ظهرى في محاولة للتأكد مما أرى. لقد تلاشى قتب كان يُلازمني، فتحت النافذة المُحرم عليّ فتحها، لامست الشمس شعري.

أغلقت صفحتك...

قلت لك في سري شكرا...

فتحتُ الباب على مصراعيه...

وخرجتُ بقامة منتصبة.