الخميس 16 مايو 2024

"يوم أن قتلوا الغناء".. رسالة مسرحية شديدة العذوبة

21-5-2017 | 11:09

يسري حسان - شاعر مصري

ظل رجل يبحث عن أسرار الكون، ولم يصل إلى شيء حاسم ينهى حيرته وينير طريقه، وعندما حانت لحظة موته أوصى ولديه بمواصلة البحث فربما توصلا إلى شيء وانفتحت أمامهما أبواب المعرفة التي تأبت عليه، وبسببها مات حزينا.

   يفترق الشقيقان كل فى طريق، الأول سيلفا (علاء قوقة) والآخر مادا (ياسر صادق). يذهب سيلفا إلى جبل فى يوم شديد البرودة، يفاجئه رجل شاهرا سلاحه فى وجهه وطالبا منه أن يعطيه ملابسه، وعندما يخبره سيلفا أنه سيموت من شدة البرد إذا خلعها، يقول الرجل ابحث عن الدفء فى قلب البرد ويمضى إلى حال سبيله. ويظن سيلفا، بعد أن فكر فى حكمة الرجل، أنه إله جاء ليرشده إلى الطريق الصحيح، فيقوم ببناء معبد له ويجمع حوله الأتباع ليصبح بمرور الوقت حاكما عليهم ومتحكما فى مصائرهم بمساعدة كاهن المعبد (حمادة شوشة)، ويصدر أمرا بتحريم الغناء وقتل كل من يغنى أو حتى يفكر فى الغناء.

   تخرج سيدة مع طفلها، ذات صباح، تغنى لنور الشمس فيقبض عليها رجال سيلفا ويتم قتلها أمام طفلها الذى يتولى أمره سيلفا ويعده ليكون يده التى يبطش بها، وتتلوث يداه بدماء الأبرياء الذين يحبون الغناء.

   الشقيق الآخر مادا يذهب إلى الغابة عازفا على نايه ومتأملا فى أسرار الكون، تلتف الطيور من حوله، وكذلك محبو الغناء. مادا، الذى أوصله تفكيره وحكمته إلى أن هناك طوفانا قادما، يطلب من أتباعه بناء سفينة حتى إذا جاء الطوفان أنقذتهم من الغرق وذهبت بهم إلى بلاد أخرى تتاح فيها فرصة الغناء وتأمل الملكوت والبحث فى أسرار الكون. ويبدأ محبو الغناء فى بناء سفينتهم، لكنهم كلما شرعوا فى البناء والغناء يأتى جنود سيلفا ليحطموه ويقتلوا مجموعة منهم.

   الطفل آريوس (طارق صبرى) الذى أصبح يد سيلفا الباطشة يخشاه الجميع ويفرون من أمامه، إلا فتاة تشبه والدته تماما، تواجهه وتصفه بالضعيف الخائف الذى لا يستطيع قتلها، وبالفعل لا يستطيع، وتكون المواجهة نقطة تحول فى حياته حيث يبدأ الجانب المضيء فى روحه فى التفتح.

   يساق الكثير من محبى الغناء وبنائى السفينة إلى القتل، لكنهم يواجهون مصائرهم بشجاعة وأمل أنهم إذا ماتوا فإن فكرتهم ستظل حية، الأفكار لا تموت حتى لو مات أصحابها، وأن يوما سيأتى لا محالة تصبح فيه فكرتهم واقعا على الأرض.

   يسعى سيلفا بتحريض دائم من كاهنه، إلى الانتصار على أخيه، ويأمر رجاله بقتله هو ومن يصنعون معه السفينة، وبعد قتله يشعر بنشوة الفوز وأنه هو الذى على حق، لكنه فى اللحظة نفسها يقابل الرجل الذى ظنه إلها وأقام له معبدا، ويقول له أنت الإله الذى جئتني فى الجبل، لكن الرجل يخبره بأنه مجرد قاطع طرق، وعندما يسأله سيلفا ومن أين لك بالحكمة التى أخبرتنى بها، يقول الرجل تعلمتها من رجل يعزف على نايه فى الغابة وتلتف الطيور من حوله، وكذلك محبو الغناء، ليدرك سيلفا وقتها أنه لم ينتصر على أخيه، وأن أخاه كان على حق بينما هو على باطل واصطنع إلها وهميا دون أن ترشده روحه إلى الإله الحقيقى، وقتل كل من يسعون إلى الخير والمحبة والسلام، فيقوم بقتل نفسه.

   وتظل الفكرة حية ويتم الانتهاء من تدشين السفينة ويأتى الطوفان بالفعل ليركبها محبو الغناء ومعهم أرواح الذين ماتوا دفاعا عن فكرتهم، وكذلك أريوس الذى تتردد صدى الأغنية التى كانت تغنيها أمه فى روحه ويكتشف نفسه والجانب المضيء الذى أطفأه سيلفا ودفعه ليكون قاتلا وليس محبا أو متسامحا.

   هذه هي، باختصار، أحداث العرض المسرحى الذى بدأ تقديمه على مسرح الطليعة نهاية مارس 2017 بعنوان "يوم أن قتلوا الغناء" تأليف محمود جمال، إخراج تامر كرم، بطولة علاء قوقة، ياسر صادق، حمادة شوشة، طارق صبرى، هند عبد الحليم، محمد ناصر، ومجموعة من شباب مسرح الطليعة. ديكور د. محمد سعد، وموسيقى أحمد نبيل، وملابس مروة منير، وتعبير حركى عمرو باتريك.

   فى هذا العرض تضافرت عدة عناصر لتجعل منه واحدا من العروض العذبة التى تغسل أرواح المشاهدين وتدفعهم إلى مساحة واسعة من الشفافية، بدءا من النص الذى كتبه محمود جمال وهو مؤلف شاب له عدة نصوص ناجحة ومهمة. صنع محمود جمال أسطورته الخاصة مستفيدا من ـ ومتكئا على ـ قصة سيدنا نوح عليه السلام، فى فكرة السفينة والطوفان، لكن أسطورته جاءت مجردة من الزمان والمكان، وحتى الأسماء التى استخدمها ابتعد فيها عن الأسماء العربية حتى لايذهب المشاهد مباشرة إلى منطقة لم يسع الكاتب إلى الذهاب إليها وإن استفاد من أحداثها ووظفها فى سياقات مختلفة.

   اختيار النص والعمل عليه من جانب المخرج تامر كرم يؤكد وعى وحرفية هذا المخرج الذى استطاع تقديم وجبة مسرحية دسمة فيها من التراجيديا والكوميديا والرقص والغناء، كل بمقدار معلوم ومحسوب بدقة شديدة، دون أن يطغى أحدها على الآخر، ما جعل العرض يحمل كل هذه الطاقة والحيوية التى تأخذ المشاهد إلى عوالم مدهشة من الخيال والبهجة والتفكير والأسئلة التى تتوالى أثناء العرض وبعده.

بدا المخرج واعيا بطبيعة وماهية الرسالة التى يسعى إلى إيصالها مستغلا كل العناصر التى تحت يديه فى صناعة صورة بصرية شديدة النصوع والعمق، ومستغلا طاقات ممثليه ومسيطرا عليها وموجها إياها إلى مناطق وسكك تجعل عرضه متماسكا ومتدفقا بغير سوء.

   اهتم مهندس الديكور د. محمد سعد بعمل تكوينات وتشكيلات بديعة فى منظرين اثنين فقط، الأول فى منتصف الخشبة وهو عبارة عن غابة متشابكة الأغصان، وفى مقدمة يمين ويسار الخشبة ما يمثل منطقة جبلية، وخلف الغابة هناك المعبد الذى تقبع خلفه الفرقة الموسيقية حيث جاءت الموسيقى والغناء "لايف" ولا يحتاج تغيير المشهد إلى بلاكات أو مساعدات من الممثلين حيث يسقط ديكور الغابة من عل وكذلك يرفع، أى أن الديكور فضلا عن وظيفته الجمالية والعملية فى خدمة العرض كان كذلك عنصرا فاعلا فى تدفق إيقاع العرض وسهولة انتقاله من عالم إلى آخر، كما أسهمت الملابس التى صممتها مروة منير فى دعم الصورة البصرية وإبراز ملامح وطبيعة الشخصيات، فملابس سيلفا صورته أقرب إلى الشيطان أو المحتال، بينما جاءت ملابس مادا البيضاء البسيطة لتظهر الشخصية أقرب إلى النوارنية والصدق، وأبرز كل ذلك إضاءة تم توظيفها بشكل جيد فى التعبير عن طبيعة المشهد ولحظات احتدامه وسخونته أو هدوئه وسكونه.

   وظف تامر كرم المجاميع فى أداء حركى متقن صممه عمرو باتريك، وأجاد الربط بين المشاهد دون فجوات تثقل على المشاهدين، وساعده بالتأكيد عمق النص وبساطته وإشاراته الدالة التى تدعو دائما إلى التأمل وليس المررو السريع الكريم.

   بدا علاء قوقة فى دور سيلفا الأخ الشرير الباطش محرم الغناء، واثقا ورصينا و"راكبا" الدور باحترافية ليست غريبة عليه كممثل لا يؤدى شخصيته من الخارج بقدر ما يتقن تحليلها وفهم طبيعتها ودوافعها وتصرفها على هذا النحو أو ذاك، وكذلك ياسر صادق الذى أدى دور مادا باقتدار شديد وهدوء وحكمة تناسب طبيعة الشخصية المتأملة الساعية إلى المعرفة، المتسامحة، المحبة للغناء وكل ماهو خير، وكذلك طارق صبرى فى دور أريوس القاتل وتحولاته من النقيض إلى النقيض عبر رحلة طويلة مابين الشك واليقين. ولعب حمادة شوشة دور الكاهن ببساطة شديدة دون افتعال ورغم أن مساحة الدور لم تكن كبيرة فقد أداه بحضور لافت، وكذلك باقى المجموعة من شباب الطليعة الذين كان واضحا مدى الجهد المبذول معهم فى التدريب والإعداد سواء من حيث التمثيل أو الرقص أو الغناء.

   "يوم أن قتلوا الغناء" عرض مسرحى مهم يقدم رسالته ببساطة وسلاسة وجمال يتسلل إلى داخل الروح بعذوبة. عرض أقوى بكثير من آلاف الخطب والمواعظ عن الخير والمحبة والسلام والغناء الذى لا يعنى مجرد ترديد كلمات طيبة لكنه يعنى أسلوب حياة.