تابعت بشغف مع جموع الملايين من المصريين أخبار نقل مركب الشمس للملك خوفو من موقعها بجانب أهرامات الجيزة إلى مستقرها بالمتحف المصري الكبير، وسط ترقب بإذاعة الحدث على الهواء مثلما كان الحال في العرض الفريد لموكب المومياوات الملكية منذ بضعة أشهر، برغم عظمة تفاصيله الاستثنائية كحدث استثنائي على مستوى العالم، باعتباره لم ولن يحدث بمعايير ضخامة المركب كقطعة أثرية، والتفاصيل الدقيقة لعملية الإعداد للنقل من داخل المتحف لداخل الشاحنة ومن ثم التحرك بثبات يضمن الحفاظ على سلامة القطعة الضخمة.
إلا أنني أتصور أن طول فترة عملية النقل التي امتدت من مساء أمس وحتى صباح اليوم كانت سبباً كافياً لعدم نقله على الهواء حيث قامت الشاحنة البلجيكية العملاقة -التي تم استقدامها خصيصاً لهذا الحدث- بنقل المركب بداخلها وحملت انعكاساً ذهبياً لها بنفس الحجم والشكل من الخارج، ليتسنى لشهود العيان والمارة تصور حجمها وتفاصيلها، حتى أن شبكات الأخبار أكدت في الساعات الأولى من صباح اليوم تمام وصول المركب إلى موضعها الأخير بما يؤكد استغراق الأمر عدداً من الساعات الطويلة التي حالت دون إذاعة الحدث كاملاً.
ولأنني من الشغوفين بالتاريخ المصري القديم منذ المراحل الدراسية الأساسية، حتى أنني اخترت طواعية مادة التاريخ في الثانوية العامة بديلاً عن مادة الفلسفة والمنطق برغم فارق الصعوبة في الدراسة والحفظ، لكامل قناعتي بأن هذا الكتاب كان امتداداً طبيعياً لهويتي المصرية، حتى أن المَدرَسَة قامت بتخصيص مُدَرِّسَة لي بمفردي على مستوى القسم الأدبي بأكلمه.
فمن هنا كانت زياراتي المتكررة للمتحف المصري بالتحرير عشرات المرات منفردة أو مع أصدقاء خلال فترة دراستي الجامعية، رأيت بأم عيني مئات بل آلاف القطع المكتظة فوق بعضها البعض داخل المتحف أو التي قيل أن مخازن الآثار تحتويها، والتي أُسيء عرضها لسنوات طويلة بما لا يتواءم مع عظمة القطع، أو ما يضمن الحفاظ عليها من التلف لسنوات، وهي التي تخطى عمر أحدث قطعة فيها آلاف السنين.
ومن ناحية أخرى كنت دائمة السفر للخارج، وبطبيعتي كنت أيضاً دائمة الحرص على زيارة معظم المتاحف بأغلب الدول التي قمت بزيارتها على سبيل الفضول لا الحماسة أو الانبهار، والتي كانت قدراً من أهم الدول الموضوعة على خريطة السياحة العالمية كإسبانيا وفرنسا وبلجيكا وانجلترا، زرت معظم المتاحف بهم وقمت بدفع الكثير والكثير ليس فقط على مستوى سعر تذاكر الدخول لكن أيضاً للوصول إليهم.
أتذكر مرة أنني قمت بصحبة صديق أوروبي بزيارة متحفاً بإحدى ضواحي العاصمة مدريد والذي احتوى مئات القطع المعروضة للسكان الأصليين للمكان، شملت بعضاً من خصلات الشعر وأزيائهم التقليدية والأدوات التي اعتادوا استخدامها، كانت كل قطعة منهم لا يتعدى عمرها الافتراضي الخمسمائة عام على أقصى تقدير، بعيداً عن فترة الحكم الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيرية والتي دامت لقرابة الثمانمائة عام.
كانت ملامحي وانطباعاتي كفيلة بأن تعطي تفسيراً أمام الصديق الأوروبي، فلم يكن علي أن أقوم بشرح أسباب عدم انبهاري بأغلب محتويات المتاحف -لا طريقة عرضها وتقديمها على أنها تحفة أثرية- لما لا وأنا أعلم تمام العلم أن خلفيتي التاريخية تؤهلني لتسيد كل تلك البقع المستحدثة في العالم، والتي لم تتوانى .
أصلاً عن سرقة الكثير من أقدم حضارات الأرض، وهي قد تكون من أهم العوامل التي عضدت من عدم تقبلي لفكرة استعراض فخر الآخر بما لا يملك ولا يجعله أمامي محل انبهار.
ويشاء القدر بعد عدة سنوات أن أقوم بمصاحبة إحدى الوفود الأفريقية الناطقة بالفرنسية إلى المتحف المصري الكبير عام 2015 في زيارة فريدة لي ولهم، حتى أن السيد مدير المتحف آنذاك والذي كان يجيد الفرنسية بطلاقة، بطريقة جعلت أعضاء الوفد ينبهروا من شدة إجادته للغة ومخارج ألفاظها، ثم قام باصطحابنا في جولة داخل بعض غرف إعادة الترميم بالمتحف التي كانت تعمل بالفعل، وهي أشبه بمعامل علمية ضخمة جداً ودرجة الحرارة بها منخفضة بما يحقق مناخ الحفاظ على القطع الأثرية المراد ترميمها ومن ثم التمهيد لإعادة عرضها.
حيث تم إخطارنا أن القطع الأثرية تمر بعدة مراحل قبل وضعها في أماكن عرضها بالمتحف، فبعد إخراجها من مخازن المتاحف تبدأ عمليات الترميم الأولى والتوثيق لأسماء وعدد ومواصفات القطع، ثم توضع في صناديق مجهزة مضادة للاهتزاز مع ضبط درجات الحرارة بها، حفاظاً على سلامتها، ثم تنقل بسيارات مجهزة إلى المتحف الكبير.
ومن هنا كان حرصي على متابعة كل ما يخص تطورات الانتهاء من إنشاء المتحف الكبير الذي كان مقدراً افتتاحه في 2011، إلا أن كل الظروف السياسية المحلية والإقليمية آنذاك حالت دون إتمام الافتتاح في موعده، وهو ما أعتبره أنا كمواطن مصري من المقدرات الربانية التي نحمد الله عليها لضمان القيام بالترتيبات الملائمة لهذا الحدث الاستثنائي والأوحد من نوعه على مستوى العالم، باعتباره الأكبر على مستوى العالم من حيث المساحة، والأضخم من حيث احتوائه على أكبر عدد من القطع الأثرية التي تخص حضارة إنسانية واحدة بكامل تفاصيلها.
حيث استقبل المتحف الكبير نحو 64 ألف قطعة أثرية مهمة، على رأسها تمثال الملك رمسيس الثاني، ومركب الملك خوفو، ومقتنيات الملك توت عنخ آمون، التي تتخطى لوحدها 5 آلاف قطعة أثرية سبق عرض بعضها بكبرى الدول كالولايات المتحدة وفرنسا واليابان، ومن المتوقع الانتهاء من نقلها بالكامل للمتحف المصري الكبير في حدث فريد ننتظره أيضاً.
وقد سبق وأن نقلت الآثار المصرية تمثال رمسيس الثاني إلى المتحف الكبير، وسط مراسم ملكية، ووضع التمثال في البهو العظيم بالمتحف، ليصبح أول مستقبلي زوار المتحف، والذي من المقدر افتتاحه بنهاية العام الحالي 2021 في حدث تتبناه الدولة بقوة ليصبح أكبر مشروع حضاري في القرن على مستوى العالم.
ذلك، بخلاف كونه مشروع قومي معد ليكون من أهم عناصر الجذب للسياحة المصرية، وهو الأمر الذي تسعى وزارة الآثار والسياحة لإبرازه في جميع حملات الترويج للمتحف، ومنها الحملة الدولية الجديدة التي أطلقتها بالشراكة مع "شبكة سي إن إن" الإخبارية العالمية، وتستهدف تغيير الصورة الذهنية عن القطاع السياحي ودرجة استعداد مصر لاستقبال أسواق سياحية جديدة وافدة إليها.
كما سبق وأن قامت السياحة المصرية بجهود داخل بورصة برلين للسياحة لوضع شعار المتحف على تذكرة دخول البورصة، ونشر لافتات وسط الحدث العالمي، لجذب سياح العالم لزيارة أكبر متاحف الآثار بالشرق الأوسط.
العمل يجري على قدم وساق على الخريطة الأثرية المصرية كما كانت تستحق من عشرات السنين، وكلنا فخر وحماس وضعت كتيبة وزارة الآثار حجر أساسهم بداخلنا منذ إتمام العرض الفاخر لموكب
المومياوات الملكية، آملين أن يخرج هذا المشروع القومي إلى النور بالشكل الذي يلائم "أرض كيمت" بلاد طيبة كمصدر لطاقة الشمس الكونية على الأرض، ومحل كل إلهام حضاري لسائر الكوكب.