لكل اسم دلالاته التاريخية والثقافية، وشواهده التي تدلل على ذلك وتشي به.. وهذه المدينة التي أحث الخطى في طرقاتها وأجوب شوارعها متجولا بين احيائها، هي من أكبر الأدلة على صدق ذلك.
القاهرة.. هذه المدينة الضاربة في عمق التاريخ، ما تنفك تأسرني حتى ولو حاولت أن اتملص منها.. حالة الحب التي تعلنها على القاطنين فيها، والقادمين إليها، تلزمني مبادلتها الشعور.. فأجد نفسي وقد بادلتها الحب، ومنحتها كل ما أوتيت من إحساس لأنها – وقد قيلت قديما – إن شربت من مائها فستعود إليها لا محالة.
القاهرة رغم الضجيج الناجم عن ما يفوق الملايين العشر، من الذين يجوسون في ثناياها، يبعثون الحياة فيها، وتمنحهم دفأها وعراقتها، غير أصحاب المحال وصبيانهم والمقاهي وعمال الدليفري والتكاسي، فإن ذلك الصخب لا يمنع الأذن المرهفة، من أن تسمع "حديث المدينة"، لا سيما في القاهرة القديمة، فإذا ما قادتك خطواتك إلى حواشي سور الازبكية، أو دخلت في زحام ميدان العتبة، فإنك ستشعر بأن الزمن قد توقف، وبأنك لم تعد قادرا على التوقيت الحقيقي للحظة التي أنت فيها الآن.
في القاهرة ليس ثمة غرباء، فهذه المدينة قادرة على احتواء الجميع، ويلتقي فيها الكل، وفي صحن الإمام الحسين يتوقف الزمن.. كيف لا وهنا مقام سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يقف الناس لاستنشاق تاريخ التاريخ، ويتوه الإنسان في نفسه.
وكان لا بد أن أتوقف في هذه الباحة، لألتقط بعضا مني تبعثر هنا، منذ آخر رحلة قادتني إلى قاهرة المعز، قبل أحد عشر عاما.. فلله در أرض الكنانة، التي لا غريب فيها.
ملايين تفوق المئة، تتقابل وتتماهى في الشوارع والأزقة والمدن والقرى.. ملامح مختلفة ومشارب متعددة، لكن القلب واحد، والنوايا تظهر على وجوه العابرين، لتجعلها أكثر نصاعة.. الكل يبتسم.. الكل يضحك.. الكل يحيي الكل.
حين سألني الشاب الذي يعمل على عصر الفواكه، في محل العصير، الذي كان يغص عن آخره، بما لذ وطاب من الثمار، ماذا أريد؟ منحته ابتسامة باهتة هي كل ما بقي بإمكاني رسمه على ملامحي واجبته: هات أي شي حلو، فارتفعت ضحكته عالية، ليرد قائلا في مداعبة لطيفة: يا بيه مصر كلها حلوة، أنت مش حاسس وإلا إيه؟ وهنا أضاءت ما في نفسي من عتمة، بعد أن كادت الغربة أن تعصف بي.
كاتب ليبي ورئيس التحرير المساعد لصحيفة الجماهيرية سابقا