السبت 21 سبتمبر 2024

‎ ‎حديث النفس.. الشرفة!

مقالات10-8-2021 | 17:25

نطل منها لنرى حكايات غيرنا التى لا تختلف عن حكاياتنا.. فكل الظروف متشابهة فى ظل طبائع بشرية هى كذلك أيضا.. قد يظن البعض أن المتعاطف معه الذى قد يصل للبكاء على حاله بسبب شدة الإخلاص له.. ولكنه قد يرى فى حكايته نفسه فيحزن على حاله.. فيتصبر بأنه ليس وحده.. فنحكى لغيرنا.. ونسمع غيرنا لنسقط أنفسنا فى حكايات يكون الحديث والسمع والتأثر هو «الشرفة» التى تمتد لقلوب ومسامع الآخرين لننشئ علاقات من التعاطف والتصبر بقضاء الله وقدره.. وقد يكون من باب الفضول الذى يغذى الرضا داخلنا.. وقد نصبح مثاليين فنرسل مشاعر التعاطف والمؤازرة لغيرنا فتقوى الروابط والعلاقات الاجتماعية بين الناس.. وقد نفضل العزلة إذا ما اختفى الصدى والإحساس بنا!!

الحاجات الإنسانية كلها واحدة بدليل وجود هرم الاحتياجات الفسيولوجية الذى ينتهى بإشباع رغباته واحتياجاته من الأمن والأمان.. ووجود تشابه فى احتياجات الإنسان يجعل نفس المشكلات التى تواجه الإنسان واحدة وتخلق معها نفس التعاطف.. فتجد الناس يقبلون على سماع حكايات بعضهم البعض أو قراءة القصص الإنسانية حتى القصص الأدبية الرمزية تجد الناس يفكون شفرتها بإطارهم الدلالى المناسب لمفاهيمهم، وهذا يفسر أسباب إقبال الناس على الأعمال الأدبية والسينمائية التى تتعرض للجوانب الإنسانية فتجدهم يجدون أنفسهم فى مشاكل غيرهم أو تجسيدا لنماذج إنسانية يعرفونها بأنفسهم وكأن كاتب القصة عايش هذه الحكاية وكلما اقترب من الحلول الواقعية كان الصدى لها أوقع.. وكثير من القراء ما يعبرون عن تعاطفهم مع ما أكتبه من توصيف للنماذج الإنسانية، وبعضهم يقول نبحث عن أنفسنا أو عن ذوينا أو لم يتبق سوى أن تكتبى أسماء أصحاب هذه النماذج لأنهم يرونها شديدة القرب منهم حتى أنهم أحيانا يسقطونها علىّ نفسى! فإذا ما كتبت مثلا عن الحب والهجر أو الخيانة يتوقعون أننى مررت بمثل هذه التجارب بدليل أننى أصبحت شديدة الدقة فى وصفها.. الأمر المؤكد أن لنا كلنا نفس الطبيعة البشرية التى تمر بنفس الأحساسيس ولكن الدرجة تختلف من شخص لآخر فمنا السهل والقاسى والطيب والشرير واللين والجامد فتختلف المعاملة ليكون المنتج مختلفا ولكنه متشابه مع آخر من نفس الطباع!!

كلنا نرى الحياة من “شرفته” قد نسعد بمشاهدة حياة الآخرين فى كل شخوصها وحركتها وأدواتها.. ولكن حركة الحياة واحدة.. وإذا ما مررنا بمشكلة قد نستشعر وقوف الحياة عند هذه المشكلة رغم أن الحياة حتما تسير ولا تنتهي.. وفى بحثنا عن التعاطف معنا بدون أن نشعر تجدنا نرجو أن تستمر ولو بحد أدنى من حركتها لأننا جميعا اجتماعيون نؤثر ونتأثر بالآخرين حتى فى خيارنا للعزلة التى قد نشتاق إليها قد تكون لترتيب أوراقنا كى نعود للحياة الاجتماعية مرة أخرى.. والقليل من يتوقف ويكتئب ليعلن نهاية حياته بسبب فقده لتعاطف الآخرين، ولكنه فى نفس الوقت يفقد تعاطفه مع الآخرين، وقد يصاب بـ”اللامبالاة العاطفية” فأصبح لا يتعاطى عاطفيا حتى مع نفسه!!

تخيل نفسك تعيش داخل مسكن هو نفسك البشرية وتطل على الآخرين من خلال “شرفة “ لا تستطيع أن تستغنى عنها مثل تلك الموجودة فى البيوت سواء كان مسكنا فى حى راق أو منطقة شعبية أو عشوائية مختلف الطراز.. لكنها شرفتك التى يحلو لك أن تخرج إليها سواء كنت فى كامل هيئتك متجملا حسن المظهر أو فى ملابس النوم.. أو.. أو.. تخرج إليها فى الوقت الذى تحدده ولا مانع أن تسمع ضجيج الشارع الإنساني.. أيا كان فشرفتك أنت صاحب الحق الوحيد فى أن يغلقها أو يفتح نوافذها.. فتبوح بما تريد وتسمع ما تريد..ولكننا حتى ونحن نتسامر ونتحاكى فإننا نسمع تقريبا نفس الحكايات التى تصف شخوصها، لكن تشعر معها بتكرار نفس المشكلات فى حياتنا الخاصة والعامة.. وتبقى لنا قصص مثيرة تجدنا نحب سماعها إما للتسلية أو لأخذ العظة والحكمة أو نبحث عن الرضا تحت قاعدة “اللى يشوف بلاوى الناس تهون عليه بلوته”..

وقد نتعاطف ونحّن لأمور سلبية أصابت غيرنا بسبب ذكريات أثيرت داخلنا فاستدعت أفكارا أو ذكريات لمشاعر عشناها فى الواقع أو حتى فى خوف لدينا من أن يحدث لنا مثل هذه الأمور.. فنسقط أنفسنا عليها وقد نعيش تلك المشاعر من جديد بشكل يسمح لنا فهمها والتعمق فيها وقد نصل لمثالية تسمح لنا أن نغير أنفسنا أو نساعد غيرنا فى إيجاد حلول لمشكلاتهم من خلال المشاركة الوجدانية للآخرين التى قد تقلل من عبء تحمل الأحزان أو حتى الأفراح تحتاج من يتشاركها مع أصحابها.. التى تبدأ من الإصغاء والاستماع وتنتهى بالتعاطف السليم الذى يحقق الانسجام لوجود داعم يسمعه ويؤازره طالما طلب المساعدة بدون اقتحام قصته أو حكايته.. فالبعض منا يكره اللوم والتوبيخ له ولأخطائه.

ولسنا كلنا على نفس الدرجة فى تقبل تعاطف الآخرين مع مشكلاتنا فالشرط أن نفتح نحن بأنفسنا نافذة نفوسنا ليرانا غيرنا.. فالبعض منا يقرر الصمت أو الحزن الصامت بعد إصابته بصدمة مما يستوجب على الآخرين احترام هذا السلوك حتى ولو كان مؤذيا لأصحابه لأن مواساتك له لن تكون مجدية إذا ما قرر العزلة لأنه قد يكون منكرا لهذه المشكلة أصلا! وهناك إنسان آخر أتصور أن لديه الصحة النفسية بأن يبحث عن صديق موثوق به أو حتى يدون مشكلته ويعيد قراءتها على نفسه.. لأنه قرر إنهاء هذه المشكلة.. أما الشخص الذى يرفض أن يطل من نافذته فهو قرر الاستمرار فى هذه المشكلة دون البحث عن حل!!

وفى بحثنا عن حلول لمشكلاتنا والتعاطف معنا قد نؤلم الآخرين وخاصة هؤلاء الذين يكونون على استعداد دائم لمشاركة الآخرين فى أحزانهم ومشكلاتهم.. فقد ينسون أنفسهم وأولوياتهم ويذهبون فى متاهات التعاطف مع الآخرين حتى أنهم لن يفيقوا من هذه الحالة فيعجزون عن إيجاد حلول واقعية لمشكلاتهم ومشكلات غيرهم.. لكننا أنانيون فى علاقاتنا بالآخرين نظن طوال الوقت أن مانمر به هو الأضخم والأكبر والأسوأ ونفترض أن الآخرين بلا مشكلات.. فمهما بلغت درجات الإيثار لابد أن يمل الطرف الذى وضعناه تحت تصرفنا لإلقاء متاعبنا وهمومنا عند بابه ومغادرتنا خفيفى الوزن مرتاحى البال.

ولا يعنى هذا الا نتعاطف ونتشارك مع بعضنا البعض ولكن لابد وأن نحقق درجة التوازن حتى لاتهدر طاقتنا فهناك أشخاص مرهفون يتأثرون حتى بالمشاهد التمثيلية فى الروايات، وقد يكون هذا الأمر لاستعداد نفسى لديهم يتسبب فى تمزيق أنفسهم وتعكير مزاجهم ويصبحون لا يفرقون بين التمثيل والحقيقة.. لأنهم يرون المأسى الإنسانية بعين التعاطف المرضى الذى يفقدهم التوازن الذى قد يصل لدرجة إفساد حياتهم، فيصبح التعاطف فخا نخشى على أنفسنا من الوقوع فيه.

وليست كل حكايات السرد يتمتع أصحابها بالصدق فى روايتها فتختلط ببعض الأكاذيب أو كثير من الأكاذيب حتى تصير فى موقف الضحية التى يتعاطف سامعوه معها.. بعضنا هكذا.. والبعض الآخر من يتخذ من الصمت وعدم إفشاء مشكلاته طريقا قد يكون بسبب تجربته لطريقة السرد التى يتعمد فيها السامع الضغط عليه فيضطر أن يهين نفسه ليبرز مدى ما أصابه من ظلم فيتعلم أن الشكوى لغير الله مذلة ولن يفيده الحديث عن ظلم أصابه سوى “التجريس” حتى وإن تمتع ببعض التعاطف الذى قد يضيع هيبته وسط الآخرين وقد تسبب الشماتة من بعض الحاسدين الحاقدين.. وهذا النموذج موجود فالبعض يحلو له الشماتة فى الشخص الواقع ضحية لخيانة حبيب أو زوج خاصة من أصحاب الجنس الواحد لعوامل الغيرة لأن هذا الأمر فى نظره انتقاصا من جماله وتمسك الحبيب به بتفضيله آخر عليه فيفضل البعض ألا يشمت به الأعداء!!

عموما كل حكاياتنا واحدة نبحث فيها عن أنفسنا سواء تعاطفنا معها أم لا.. ويكمن سر تعاطفنا معها فى الجرح الذى تلمسه داخل نفوسنا وهذا ما نجده فى التوحد مع ما نسمعه أو نقرأه.. وهذا ما فسره القدماء من البكاء فى المآتم والجنازات فكل باك يعول على متوفٍ لديه فيرتفع البكاء بحجم من فقدناهم من موتي.

تمتلئ حياتنا بالحكايات.. هى نفس حكايات الحب والهجر والخيانة والنجاح والفشل.. حكايات بها دموع وآهات.. وأخرى تافهة لا يذكرها أحد.. قصص انتهت وأخرى تتوقف عند المنتصف لتكون نهايتها.. سيناريوهات عديدة إنذارا للآخرين أو مقدمات لأشياء محتملة الحدوث.. متوقعة أو مفاجأة أو فى صورة صدمة أو عشوائية فتتمتع بالإثارة والتشويق.. وأخرى لا تحمل سر بقائها فينساها الجميع.. حكايات نعيشها لتكتمل حكاية العمر كله فيذكرها غيرنا بعد رحيلنا.. قد تحمل غلطة العمر أو فرصة العمر.. لها أيام حلوة وأخرى مرة.. ويوم طويل وآخر قصير.. لكنها كلها أيام تنتهي.. نطل من شرفة أنفسنا عليها.. نبحث عن أشباهنا لنتعاطف أو نعزل أنفسنا.. فالأصل أين نحن من هؤلاء!!