الإثنين 25 نوفمبر 2024

مقالات

من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (28)

  • 14-8-2021 | 11:53
طباعة

بردية "ريند" الرياضية- المتحف البريطاني في لندن

د. محمد أبو الفتوح غنيم

القليل من الوثائق المصرية القديمة التي وصلت إلينا تلقي الضوء على معرفة المصريين القدماء بالرياضيات، من هذا القليل أربع مخطوطات على أوراق البردي، ومخطوط على لفافة من الجلد، ولوحين من الخشب.

 وهناك مصادر أخرى من الآثار والمظاهر الحضارية المختلفة تعطينا العديد من الاستنتاجات والمعلومات ما يكشف من معرفة المصريين القدماء بعلم الحساب والرياضيات.

من خلال هذه المصادر الأثرية المختلفة، يمكن القول إن المصريين القدماء استخدموا الحسابات الرياضية، وأنهم ابتكروا نظامًا للأعداد تساعدهم في إنجاز تعاملاتهم اليومية، فقد استلزمت طبيعة الحياة الزراعية، ونظام الضرائب، والنظام الإداري العام، والمعاملات التجارية مع البلاد المحيطة، تواجد نظام للأعداد وللحساب؛ ولهذا كان تعلم الكتابة والحساب يـُزاول في المعابد، وكانت غالبية المصريين الملمّين بالقراءة والكتابة يزاولون مهنة الكاتب، حيث اشتملت واجباتهم الوظيفية على أداء عدد من المهام المختلفة التي تستدعي منهم بعض المهارات الرياضية إلى جانب مهارات الكتابة.

 وابتكر المصريون نظاماً للأعداد، كما استطاعوا أن يبتكروا تركيبة للكسور من الأعداد، في طريقة تشبه إلى حد كبير الطريقة المتداولة حديثاً، كما استخدموا رموزا ًخاصة لبعض الأعداد القليلة الكثيرة الاستخدام، مثل: النصف، والثلثين، والثلاثة أرباع.

واستعمل المصريون القدماء مكاييلاً ومعاييراً لقياس الحبوب والبقول، منها المعيار الذي كان يـُسمى "حقات" hekat، وكانت "الحقات" مقسمة كالآتي: 1 2، 1 4، 1 8، 1 16، 1 32، و1 64.

 وكان نظام الأعداد عند قدماء المصريين نظاماً عشرياً، لكنهم لم يتوصلوا إلى الصفر، فكان للعشرة رمز خاص بها، وكذلك الحال بالنسبة إلى المئة، والألف، وهكذا.

 وكان نظامهم الحسابي يسهِّل عمليات الجمع والطرح، وابتكروا طرقا ً لحسابات الضرب والقسمة، فأوجد قدماء المصريين طريقة لإجراء العملية الحسابية التي نُعرفها بعملية الضرب وذلك بطريقة استخدام الجمع، وكذلك كانت القسمة تعتمد على مضاعفة الأعداد على التوالي مع عمليات الضرب، ولكن مع بعض الفروق لمواءمتها للإيفاء بالغرض.

وقد عرفنا تلك الطرق التي كانوا يستعملونها في الحساب عن طريق ما وجدناه من آثارهم في هيئة برديات، مثل: بردية موسكو الرياضية، وبردية "ريند Rhind" في المتحف البريطاني.

وكانت هندسة المصريين مثل حسابهم ذات طابع عملي، وكان الغرض الأساسي منها قياس الأشكال الصغيرة والبسيطة، مثل مساحة حقل، أو حجم مبنى أو هرم.. وكان علماء الهندسة في مصر القديمة يعلمون أن مساحة المستطيل تساوي حاصل ضرب طوله في عرضه، ويبدو أنهم لاحظوا أن مساحة المثلث تساوي نصف مساحة المستطيل المتحد معه في القاعدة والمساوي له في الارتفاع، كما كانوا يعرفون كيف يقيسون مساحة شبه المنحرف.

وكانت أشهر إنجازاتهم في مجال الهندسة البسيطة التوصل إلى قياس مساحة الدائرة على أساس طول قطرها. ولا يدهشنا في بلد الأهرامات والمسلات أن نعلم أن قدماء المصريين عرفوا كيف يقيسون حجم الهرم، والهرم المبتور والأسطوانة.

وقد يكون ما توصل إليه المصريون القدماء، وما استعملوه من حساب وهندسة، نفعياً، قائماً على الاستفادة منه في حياتهم العملية، وأنهم كانوا متأخرين عن البابليين في الجبر وحل المعادلات الجبرية، أو أنهم كانوا متأخرين عنهم في التفكير المجرد، ومع ذلك حفظت لنا الدهور وثائق تكفي لتجميع صورة واضحة عن طرق وأساليب علوم الرياضيات لدى المصريين القدماء، وتتضمن بردية "ريند Rhind" إشارة إلى معرفتهم وما خطت به عقولهم في فيما يتعلق بعلم الرياضيات البحتة والتفكير الرياضي المجرد ودليل على أن اسهاماتهم فيه لا تقلُّ عمَّا وصل إليه البابليون في هذا المجال.

والبردية المذكورة، هي من مقتنيات المتحف البريطاني في لندن (تحت رقم 10057-10058)، عُثر عليها في حفريات بالقرب من معبد الرامسيوم في الأقصر سنة 1850م وتنسب إلى الأثري الاسكتلندي" ألكسندر هنري ريند" الذي اشتراها سنة 1858م، تعدُّ أحد أبرز نماذج الرياضيات في مصر القديمة. وقد احتفظ المتحف البريطاني بمعظم البردية منذ سنة 1865م مع لفافة من الجلد بها نصوص رياضية مصرية قديمة، كانت من ممتلكات "ريند" أيضًا. وإضافة إلى الجزء المحفوظ في المتحف البريطاني، هناك قصاصات من البردية محفوظة في متحف بروكلين في نيويورك لكنهما معًا لا يمثلان كامل البردية فهناك جزء مفقود من منتصف البردية يمثل حوالي 18سم تقريبًا.. كُتبت بردية "ريند" بالخط الهيراطيقي، ويبلغ طول الجزء الذي يحتفظ به المتحف البريطاني 33 سـم، لكن إن جُمعت أجزاؤه معًا فسيصل طولها إلى نحو 5 م.

وتتميز بردية "ريند" بقيمة تاريخية تضاف إلى قيمتها الأثرية والعلمية، باعتبارها وثيقة تاريخية مهمة، أن البردية تؤرخ لنفسها بأنها تعود الفترة الانتقالية الثانية من تاريخ مصر القديمة، أو ما يسمى بعصر الاضطراب الثاني، وتحديداً إلى السنة الثالثة والثلاثين من حكم ملك "أبوفيس الأول" الملك قبل الأخير من الأسرة الخامسة عشر، أي إبان عهد الهكسوس (نحو 1650-1550 ق.م.)، إضافة إلى تعقيب دُوّن على ظهرها يُؤرخ له بالسنة الحادية عشر من حكم خلفه الملك "خامودي"، ففي الفقرات الأولى للبردية، قدّم لها كاتبها أن بها:

"حساب دقيق للاستفسارات حول الأشياء، ومعلومات حول كل الأشياء والمجاهيل.. والأسرار".. واستكمل قائلاً: "نُسخ هذا الكتاب في الشهر الرابع من العام الملكي الثالث والثلاثين من حكم جلالة ملك مصر السفلى والعليا، "عاو سر رع" (أبوفيس الأول)، له الحياة، من نسخة قديمة كُتبت في عهد ملك مصر السفلى والعليا "ني معات رع"، كتب هذه النسخة الكاتب أحمس".

أي أنها نسخة منقولة من نسخة أصلية تعود إلى عصر الفرعون أمنمحات الثالث أحد ملوك الأسرة المصرية الثانية عشر (حوالي 1985-1795 ق.م.)، وأن كاتبها، أو ناقلها، كاتب يُدعى "أحمس". وعلى الوجه الآخر من البردية، يذكر الكاتب السنة 11، إلى جانب إشارة إلى الاستيلاء على بعض المدن المصرية. والأرجح أن هذا يشير إلى القتال بين المصريين والهكسوس قبيل بداية عصر الدولة الحديثة (1550-1070 ق.م.).. ومع ذلك، لا نستطيع الجزم بهوية هذا الملك الذي مضى على عهده 11 سنة حين تم تدوين هذه البردية.

تمت ترجمة البردية، ومقارنة معلوماتها الرياضية في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وتم نُشر محتواها عام 1923م وصدرت مراجعات لها والعديد من الكتب والمقالات حولها فيما بعد.

ولا تتناول البردية أطروحة نظرية، بل تستعرض قائمة من المسائل العملية فى الجبر وحساب المثلثات والهندسة، التي تواجه الناس في مختلف مجالات الإدارة والبناء، حيث يغطي النص 84 مسألة تتعلق بالمعادلات الرقمية، وحل المشكلات العملية، وحساب الأشكال الهندسية.

وكتابة والبردية توضح أن المصريين استعملوا الأرقام وقواعد العمليات الحسابية الأربع، الجمع والطرح والقسمة والضرب، والكسور الاعتيادية، والمربع والجذر التربيعي، وبعض المتواليات العددية والمسائل الهندسية، كما استعملوا معادلات من الدرجة الأولى وقاموا بحلها بطرق مختلفة، كما عرفوا معادلات من الدرجة الثانية وقاموا بحلها أيضاً.

وقد كتب المؤلف في نهاية عملية رياضية عبارة يمكن مقارنتها إجمالاً بالبراهين الرياضية وتعني بالمصرية القديمة "وهو يساوي"، و"وهو هكذا تماماً"، وهو ما يتفق مع المصطلح الحديث "وهو المطلوب إثباته".. وربما كان وعيهم بقوة البرهان الرياضي سابقة لطريقة الفكر الإغريقي.

والحقيقة أن بردية "ريند" المصرية تعدُّ وثيقة شاملة لعلم الرياضيات، وأقدم مخطوطة مصرية تم كتابتها في علم الجبر وحساب المثلثات وبشكل يتجاوز التناول النظري السطحي له إلى تناول علمي مجرد؛ مما يدلل على ما وصل إليه المصريون القدماء من تقدم في مجال علمي بحت وهو علم الرياضيات الجامع للعمليات العقلية المتعلقة بالحساب والأعداد والقياسات، والأشكال والبنيات والتحويلات، والذي كان له دور كبير في تطور العديد من العلوم والمجالات المتعلقة به، مثل: العلوم الطبيعية، والهندسة، والطب وغيرها فيما بعد. ولا شك أن هذه البردية تعطينا مؤشراً ودليلاً على أن علماء الرياضيات الإغريق، ومنهم: فيثاغورث، وأقليدس، وأرشيميدس، قد نهلوا من معارف المصريين في الرياضيات وبنوا عليها، ويذكر أن فيثاغورث جاء إلى مصر وتعلم على يد الكهنة المصريين، وأقام في مصر 22 عاماً، وأخذ نظريته في مساحة المربع القائم على وتر المثلث القائم الزاوية من الحبل الذي به 12 عقدة على مسافات متساوية الذي كان يستخدمه مهندسو البناء المصريون القدماء في بناء المباني القائمة الزاوية.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة