محمد خضير - كاتب عراقي
أشرتُ في أكثر من مقالة إلى جدل المدن العربية، قارنتُ فيها (البصرة) بأهم مدينتين عربيتين حملتا هوية التاريخ الأصلي القديم وسمات الثقافة الاستعمارية المكتسبة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (الإسكندرية وأصيلة) وناقشتُ فيها فرضية اشتراك الخصائص الثقافية بينها وانتقالها على نطاق أوسع بتأثير من عولمة ما بعد الاستعمار، والتغيير الديناميكي لبنياتها الاجتماعية والاقتصادية. وأشعر في هذا اليوم بضرورة مناقشة تلك الفرضية وإضافة رأي جديد عليها.
أحتاج أولا إلى تأصيل الإطار المرجعي لفكرة ارتحال الثقافة، بالإشارة إلى أنواع المدن الثقافية التي ستقاسم العالمَ المتحضّر رقيَّه الثقافي من غير أن تقع تحت هيمنة سلطته الرمزية على ثقافتها الوطنية ومسخ هويتها التاريخية.
تُصنّف المدن الثقافية العربية في ثلاثة أصناف من الخصائص المشتركة:
ـ خصائص تاريخية (قديمة)
ـ خصائص جغرافية (طبيعية).
ـ خصائص مكتسبة (متبدلة).
إن هذا التصنيف يستند إلى نماذج عالمية وعربية تتمثل في:
ـ المدن الميتروبوليتانية (القاهرة، بغداد، الرياض).
ـ المدن الكوزموبوليتانية (الإسكندرية، دبي، طنجة).
ـ المدن المستحدَثة (المدن المؤسسة على مخططات معمارية يوتوبية).
إن المخطط الأصلي لهذا التصنيف يرجع إلى نظرية أفلاطون عن (الجمهورية) والفارابي عن (المدن الفاضلة) وتوماس مور عن (اليوتوبيات) وفوكو عن (المدن البديلة)، لكنه في فرضيتنا هنا يستند بدرجة أساسية إلى فكرة سلمان رشدي القائلة: "أيُّ مكانٍ في العالم مرآةٌ لأيّ مكانٍ آخر" وأنموذجها مدينة كشمير المحايدة بين الهند وباكستان.
ومن جهتنا فإنّ جدلية الأمكنة فكرة تستند إلى خصوصيتنا في توأمة الأماكن العالمية والأماكن الوطنية، بالكيفية التي تعرض أنموذج سلمان رشدي في أكثر من وجه: "أيُّ مكانٍ قديم مرآةٌ لمكان حديث" أو "أيُّ مكان مغلق مرآةٌ لمكان مفتوح" أو "أيُّ مكانٍ مركزيّ كبير مرآةٌ لمكان طرفيّ صغير".
يمنحنا هذا التكييف نظرة تفكيكية للمفهوم القديم عن العواصم "الكابيتولية" المسيطرة بكناها الرمزية: "أم الدنيا" و"عاصمة النور"، ويمكّننا من استبدال فكرة الأمكنة المفتوحة على رياح التغيير والتمدين والجدل العولمي بفكرة الأمكنة المغلقة على طبيعيتها التاريخية. كما يساعدنا الاستبدالُ المكاني (الطرفي والطبيعي) على تجديد الأدوار الافتراضية لمدن الثقافة، ويقترح النماذج البؤرية الآتية لها:
ـ المدن الممثلة للثقافات المحلية والوطنية.
ـ المدن الجاذبة للثقافات المهاجرة.
ـ المدن الموائمة لأي مدينة ثقافية مستحدثة في العالم.
لا أعجب أن يتحمس المهندسون المعماريون ومخططو المدن العرب المنتشرون في بقاع العالم لزرع الأنموذج الجدلي لمدينة ثقافية عربية في رحم الطبيعة الخصيب، تقوم باقتسام الفعاليات الثقافية مع المراكز السياسية والاقتصادية لعواصم العالم الكبيرة، ويكون على رأس أدوارها:
ـ إيقاظ الذاكرات الثقافية والتاريخية الخاملة في الحاضنات القديمة.
ـ تفعيل الجدل الأساسي بين الثقافة الوطنية والعالمية.
ـ استحداث قواعد ومحطات إبداعية للعمل الثقافي الحر.
تنطوي الأدوار الجديدة لمدن الثقافة المفتوحة لرياح التغيير الديمغرافي والاستيطاني على أحلام مستقبلية طال احتباسها في أذهان المثقفين والأدباء العرب، وهم يتطلعون إلى أن يجتمعوا في لحظة جدلية قادمة في محطة/عاصمة مفترضة تتيح لهم التفرغ لعملهم الحرّ في وسط الطبيعة المهيأة لهذا الغرض، ولا تقيّدهم بماضيها المتجمد عند لحظة طال ركودها وتصحرها.
إن النماذج الثقافية المشار إليه آنفا قد تنعطف نحو أطراف جغرافية داخلية وخارجية فتضمّ طبائعَها الأصلية إلى خصائص طبيعتها المكتسبة. وأفكر هنا فيما تستطيع البصرة (باختيار اليونسكو لها عاصمة ثقافية لعام 2018) اكتسابه من أنماط موهوبة فطريا في طبيعة مدنٍ عراقية طرفيّة لكي تمثّلها في تمركزِها الثقافي المدينيّ المستقبلي (مدن: علي الغربي، سوق الشيوخ، الرميثة، الحسينية، المهناوية، الصويرة، سامراء، بهرز، الطوز، سنجار، شقلاوة). سيسمح هذا الهجين الثقافي بصنع جدلٍ يوازي في أهميته جدل العواصم الثقافية العربية المميزة بهوياتها الأصلية (القاهرة، بغداد، دمشق، القدس، فاس، مراكش، القيروان، نواكشوط، صنعاء) وجدلٍ مقابل للمدن الكوزموبوليتانية العالمية، والمدن المفترضة في عالم تتغير جغرافيته الأرضية كل يوم.
إنه آخر حلّ تستطيع مدننا الكئيبة أن تفتح بوساطاته أبوابَها الثقيلة على فضاءٍ رحب من الابتكارات الثقافية، وتجدّد أصولَها المتحجّرة باقتراباتٍ جريئة من نماذج متنوعة في العمارة والفن والفكر العملي اليومي، لكنْ بما تقترحه بنيتُها المتأصّلة من انفتاح على:
ـ الرساميل الوطنية والعالمية للاستثمار فيها.
ـ فتح الحدود لامتزاج الأجساد والأرواح والألسن المختلفة.
ـ التسامي على فكرة الزمن والأيديولوجيا وخرائط التقسيم والاستغلال الإنساني والمادي.
أدعوكم إلى عاصمتي في أطراف الدنيا، ولكم الخيار.