الخميس 4 يوليو 2024

سيناريو الحل الفلسطيني بعد سبعة عقود على النكبة

22-5-2017 | 13:38

سلامة كيلة - كاتب فلسطيني

مائة عام على وعد بلفور سيمرّ هذا العام، وكذلك سبعون سنة على صدور قرار تقسيم فلسطين من الأمم المتحدة، حيث بعد أقل من عام (15 أيار/ مايو 1948) قامت الدولة الصهيونية على جثة الشعب الفلسطيني، الذي تشرّد معظمه وبقي بعضه في فلسطين، التي بات 80% منها هو "دولة إسرائيل". ومن ثَمَّ أصبحت كلها تحت السيطرة الصهيونية قبل خمسين سنة.

وإذا كان شعار العودة هو الذي هيمن في العقدين التاليين لنشوء الكيان اعتمادا على ما حدث من تحولات في الوطن العربي أوصلت نظم رفعت شعار تحرير فلسطين، ومن ثم نشوء المقاومة الفلسطينية التي انطلقت من شعار تحرير فلسطين، فقد باتت قيادات المقاومة هي التي تطرح برنامجا يقبل بجزء من فلسطين (20% فقط) من أجل إقامة دولة فلسطينية عليها، مع الاعتراف بالوجود وبالدولة الصهيونيين على باقي أرض فلسطين. بهذا ضاعت السنوات منذ سنة 1974 إلى الآن في تكتيكات قامت في المرحلة الأولى على "تبليع" الشعب الفلسطيني فكرة "حل الدولتين"، ومن ثم جرى عقد اتفاق أوسلو سرا، ومن ثم سارت الأمور في متاهة مفاوضات لا طائل منها بعد أن أخذت الدولة الصهيونية ما تريده من الاتفاق، وهو هنا تشكيل كيان فلسطيني يقوم بدور الأمن وضبط الشعب في الضفة الغربية وقطاع غزة، ليخضع الشعب لـ "احتلال ديلوكس" كما أسماه باحثون صهاينة، حيث أصبحت كلفة قمع الشعب الفلسطيني ملقاة على كاهل الشعب ذاته، وبأيدي من الشعب ذاته. ومن ثم لتنقسم الضفة الغربية عن قطاع غزة ويصبح هناك "كيانان" فلسطينيان تحت الاحتلال محكومين من سلطتين متناحرتين، لكن كل منهما يقوم بمهمة قمع الشعب ومنع مقاومته للاحتلال الصهيوني.

في هذا المسار كانت الدولة الصهيونية تعمل جاهدة على السيطرة على الأرض في الضفة الغربية خصوصا، وتزيد من بناء المستوطنات فيها. ولقد ساعدها اتفاق أوسلو على ذلك، بالضبط لأنه نصّ على أن تكون سيطرة السلطة الفلسطينية على المدن بالأساس، أو يكون وضع القرى تحت سيطرة مشتركة، وتكون الأراضي تحت السيطرة الصهيونية (وتبلغ مساحتها 60% من أرض الضفة الغربية تقريبا). وهي الأرض التي توسّع الاستيطان فيها أصلا.

لنصل الآن إلى وضع يؤكد "فشل حل الدولتين"، حيث إن الدولة الصهيونية ترفض أن تصل المفاوضات إلى وضعية تقود إلى إقامة دولة فلسطينية، خصوصا بعد أن سيطرت على جزء كبير من الأرض، وبنت سورا حول المدن، وأقامت طرقا التفافية وحواجز تفرض "تقطيع" التواصل بين المدن أصلا. ووصلنا إلى تجميد للمفاوضات منذ مدة بعد أن باتت مستهلكة. وليطلّ دونالد ترامب بصفته رئيسا للولايات المتحدة ويقول بفشل حل الدولتين، وأنه مع حل الدولة الواحدة.

أزمة المفاوضات

هذه النتيجة لم تكن مفاجئة، بل كانت واضحة لكل من فهم "العقل" الصهيوني، وعرف طبيعة المشروع الصهيوني. فالدولة الصهيونية ليست دولة قامت من أجل "حل إنساني" لمشكلة يهود مشردين، بل أتت في سياق المشروع الإمبريالي للسيطرة على الوطن العربي، كدولة حاجز، و"قاعدة عسكرية" تتغلّف بمجتمع مدني. وهدف وجودها هو تكريس تفكك الوطن العربي ومنع تقدمه. هنا يكمن دورها وليس في مكان آخر. لهذا هي ليست معنية بـ "السلام" بل بالهيمنة، وتحتاج إلى التوسّع لكي تصبح قوة كبيرة. هذا الأمر جعلها تعتبر أن فلسطين هي "إسرائيل"، وأن الأرض هي "أرض إسرائيل". وباتت مشكلتها في التعامل مع سكان عرب "يقيمون على أرضها"، ويتكاثرون بشكل كبير، بالتالي لا بدّ من إخراجهم من إطار الدولة كدولة سياسية.

لهذا تركزت كل مناوراتها بعد احتلال سنة 1967 على قضم الأرض وحصار السكان. بالتالي لم تكن معنية وهي تفاوض سوى بكسب الوقت من أجل ذلك. فهي لا تريد حل الدولتين، هي لا تريد حل، بل تريد الهيمنة عبر إخضاع الآخر. لهذا كان "فشل حلّ الدولتين" قائما منذ البدء، وكان وهما أسهم في إعطاء الدولة الصهيونية الوقت، وتخفيف الضغط عليها من قبل الوضع الدولي. بهذا كان حل الدولتين حتمي الفشل، أو بشكل أدق كان بالونا للتعمية على سياسات كانت تهدف إلى عكسه، أي سيطرة صهيونية على كل فلسطين، مع تحييد السكان الفلسطينيين من بنية النظام السياسي والقانوني للدولة الصهيونية، عبر "إعطائهم حكما ذاتيا موسّعا"، وهذا ما كان متضمنا في اتفاق أوسلو (وقبله في اتفاق كامب ديفيد)، حيث جرى التفاوض أولا على إدارة ذاتية للضفة الغربية وقطاع غزة، كخطوة أولى، كانت هي الأخيرة.

دولة واحدة

بالتالي لم يكن حل الدولتين ممكنا في الواقع العملي، بل كان مناورة لتحقيق ما أشرت إليه للتو. فالدولة الصهيونية تعتبر فلسطين دولة واحدة هي "إسرائيل"، لكنها لا تريد كثافة سكانية فلسطينية، لهذا بعد أن ضمت فلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948 تعمل على إخراج فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة.

لهذا فإن السيناريو الوحيد القائم هو أن تكون فلسطين دولة واحدة، لكن هل هي دولة "يهودية" أو عربية؟ الصراع يجري في هذه النقطة وعليها، وكل حرف عنها هو تضييع للمسألة وتغطية على ما تفعله الدولة الصهيونية. هذا السيناريو يقوم على أساس أنه لا إمكانية لحل وسط، ليس لأن الدولة الصهيونية ترفض ذلك كما لاحظنا، بل لأن الأمر يتعلق بدور الدولة الصهيونية في المنطقة العربية، كونها قاعدة عسكرية لمواجهة كل ميل تحرري ووحدوي. بالتالي لا بد من معالجة أمرين، الأول يتعلق بطبيعة الدولة الواحدة، والثاني كيف يمكن أن يتطور الصراع ليصل إلى حدّ فرض الحل البديل.

لا شك في أن طبيعة الدولة الصهيونية تفرض أن يقوم البديل على أنقاضها، أي أن تقوم دولة عربية فلسطينية على أرض فلسطين التاريخية. هذا الأمر يقتضي تفكيك الدولة الصهيونية، وهو ما سوف أشير إليه تاليا، لكن أن يتضمن الحل معالجة لمجمل المشكلات التي نتجت عن وجود الدولة الصهيونية. أولها مشكلة اللاجئين، حيث إن حق العودة جوهري هنا، وهو يفرض استعادة الأملاك أو التعويض عنها، كما يفرض التعويض عن التهجير والنفي وسنوات العذاب. وثانيها مشكلة وجود "السكان الجدد"، هؤلاء الذي أرسلوا من مختلف بقاع العالم، أو الذين ولدوا في فلسطين، حيث إن الأمر يتطلب ابتكارا لحل لا يهضم حقوق الفلسطينيين، ويسمح باستمرار وجود من يودّ الوجود في ظل دولة عربية. هذا الأمر يمسّ الأملاك، خصوصا تلك التي هي للفلسطينيين وباتت بيد "يهود". وثالثها أن الدولة ستكون عربية تتحقق عبر تفكيك الدولة الصهيونية، لكنها تنطلق من تحقيق مبدأ المواطنة، وبالتالي يجب أن تكون دولة العلمانية، هذه المسألة التي هي ضرورة في كل البلدان العربية، هي أشدّ ضرورة في فلسطين، لأن إلغاء "يهودية الدولة" كما يطرح القادة الصهاينة لا يفترض بناء دولة قائمة على أساس الدين، بل يجب أن تكون محايدة تجاه الأديان. فالصراع الذي يبدو أنه صراع بين عرب ويهود (وهو ما كانت تصرّ عليه الحركة الصهيونية، وتصرّ عليه معظم الأحزاب الصهيونية) يجب أن يقود إلى بناء دولة علمانية.

بالتالي، وانطلاقا من فهم طبيعة الدولة الصهيونية، كونها مرتكزا عسكريا للهيمنة الإمبريالية على الوطن العربي، ليس من خيار سوى سيناريو واحد هو إنهاء هذه الدولة وإقامة دولة علمانية ديمقراطية. وكل ميل لتجاهل ذلك والاعتقاد بأنه يمكن الوصول إلى "سلام" بتحقيق حل الدولتين سيكون مضيعة للوقت وكسبا للدولة الصهيونية ذاتها.

أخيرا

كان واضحا منذ البدء أن الصراع مع الدولة الصهيونية هو صراع عربي ضد المشروع الإمبريالي وأدته هذه الدولة، لكن الفلسطنة طغت من خلال البريق الذي أحدثته المقاومة الفلسطينية، والمنظور الذي حكم مُطلقيها، حيث انطلقت حركة فتح من مبدأ فلسطنة القضية. ولقد توضّح خلال العقود الماضية كم أن هذا الأمر مهلكا، بالضبط لأن الدولة الصهيونية هي جزء من مشروع إمبريالي يهدف للسيطرة على المنطقة، وأن قوتها كانت تتأسس انطلاقا من قدرتها على مواجهة "كل العرب". ولهذا فقد غرقت المقاومة في صراع مع دول الطوق العربية أكثر مما قاومت الدولة الصهيونية، ومن ثم انحسر وضعها كثيرا، إلى أن انتهت فعليا مع اتفاق أوسلو. وما بقي ليس سوى "رمزية" الماضي، والبريق الذي كان. ويظهر واضحا الآن ضعف القدرة على المواجهة داخل فلسطين، حيث تهيمن القوة الصهيونية، وتساعدها سلطة فلسطينية تشكلت لضبط السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة.

لهذا، إن تحقيق سيناريو إنهاء الدولة الصهيونية، الذي هو السيناريو الوحيد، يفترض أن يُعاد الصراع إلى أساسه الواقعي كصراع عربي ضد الدولة الصهيونية، وفي إطار الصراع العربي من أجل الاستقلال والوحدة لتحقيق التطور والحداثة. وبالتالي يصبح تغيير الوضع العربي مهمة جوهرية في مسار تحقيقه هذا السيناريو، بما يفرض انتصار قوى معنية جديا بمواجهة الإمبريالية، حيث لا استقلال ولا تقدم ولا حداثة دون ذلك. ولقد فتحت الثورات العربية ممرا سوف يفضي إلى عالم مختلف، سيكون الصراع ضد الدولة الصهيونية جزءا منه بالضرورة، ما دامت هي أداة كبح التطور والوحدة، وفرض التبعية والنهب.

وإلى أن يتحقق ذلك، يبقى دور الفلسطينيين أساسيا في المقاومة، رغم الاختلال الكبير في ميزان القوى.