المسرح القومي المصري القاطن في ميدان العتبة الآن، يمثل تاريخ من النضال الذي خاضه عشاق المسرح، نعم أنشئ بقرار من الخديوي إسماعيل ليواكب احتفالات افتتاح قناة السويس بجوار دار الأوبرا التي اتخذت مكانها في ميدان حمل اسمها فيما بعد .
لكن "تياترو الخديوي" هكذا كان المسمى الأول ،أقيم بحديقة الأزبكية التي أقيمت فوق بحيرة الأزبكية وكانت المنطقة قبلة الشعب للتريض والسمر ومن ثم جذبت الفنانين الجوالين من الحواة والعرائسيين مثل الأراجوز وخيال الظل والعازفين واستمر الأمر فكما هو معروف كانت الحديقة تضم ما يطلق عليه " كشك الموسيقى " حيث تحضر فرق موسيقية تعزف لرواد الحديقة عدة مرات كل أسبوع أوفي يوم الجمعة فقط، واستمر هذا التقليد عشرات السنوات ربما لمنتصف ستينيات القرن الماض، إذن هذا المكان الفني (الحديقة والتياترو )ابتدعه الناس وارتادوه أجيال وراء أجيال .
قدمت فرق أبو خليل القباني وإسكندر فرح وسلامة حجازي وهي أشهر الفرق في ذاك الزمان مسرحيات وأوبرات منذ أول موسم مسرحي عام 1885 .
ثم أطلق على مبنى المسرح مسمى (المسرح الوطني ) عام 1921 بعد غضب المصريون من الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى، وتحكي الرائدة روزا اليوسف في مذكراتها كيف خرج كل أعضاء الفرق المسرحية بملابس التمثيل من مسارحهم ومنها مسرح الأزبكية، للتظاهر مع الشعب أثناء ثورة 1919 ضد الإنجليز والملك .
أنشئت ( الفرقة القومية المصرية ) عام 1935 ولك أن تلاحظ الاسم ، وفكرة القومية التي أججها المصريون ضد الاحتلال وسراي الحكم وأكدها عشاق المسرح الأوائل ولازالت مرتبطة باسمه، لذا تم حل الفرقة وتسريح كل الفنانين والعمال عام 1942 لسبب وطني "لتقديمها أعمال ضد الاحتلال" أي شرف لهم وأي فخر لنا أمس واليوم وغدا.
وعادت الفرقة في مطلع الخمسينيات استمر العمل بتقديم درر من المسرح المكتوب والمعروض حين يكون أول نص يقدم بعد استقرار الفرقة لكاتبنا المؤسس توفيق الحكيم ( أهل الكهف ) بكل ما يمثل النص من ألق فكري وفلسفي باق للأبد . وادعوا من يريد مزيدا من المعلومات مطالعة الكتاب الهام "المسرح القومي منارة الفكر والإبداع "للدكتور عمرو دوارة، ويا سلام على دلالة العنوان" .
مسرحنا القومي المبنى والمعنى، لكل مسرحي ومتفرج معه ذكريات من مسرحيات شاهدها فوق خشبته، من فنان استمتع بأدائه، وأنا أحصي بعض المسرحيات التي شاهدتها به منذ طفولتي وصباي وإلى اليوم، وأنا فرحة وما زلت مثلي مثل كل رواده حين يقف شهير أو مغمور ويصدح صوته بأعذب الكلمات مع زملائه .
شاهدت في مسرحنا القومي بدون ترتيب زمني "لست وحدك – لعبة السلطان – ابن البلد – دماء على استار الكعبة – أهلا يا بكوات وعودة البكوات – جاسوس في قصر السلطان – منمنات تاريخية -الست هدى – الناس اللي في التالت – الإسكافي ملكا -الملك لير-ليلة من ألف ليلة وليلة – المتفائل".
ومسرحيات كثر غيرها حملت أفكارا وأمتعت وسايرت وقائع وأحداث وطنية كثيرة مما جعل أبوابها تفتح شهورا وسنوات لجمهور تواصل مع أجداده في إعمار المكان .
عن نفسي أفخر أنني كنت أعمل به في أول عمل لي بعد تخرجي مع زملائي وذلك على يد أستاذنا كرم مطاوع حينها كان رئيس هيئة المسرح حين سألني أين تعملين ؟ من إجابتي فتح تعيين دفعات من شباب الأكاديمية لنتعلم من كبار المسرحيين في مسارح مصر كلها.
في القومي عرفت تقليدا قديما عابرا للزمن وهو لقاء إفطار شهر رمضان الذي تجتمع به أسرة المسرح، كبارها وشبابها، عمالها وعاملاتها، الموظفين والإداريين، تجمعهم مائدة ممتدة في المكان والزمان الكل يجلس معا للطعام ثم شرب الشاي وأحاديث تمتد للسحور في وحدة متماسكة تماثل منمنات الأرابيسك التي تزين جدران ومقاعد وبناوير المسرح .
جلسنا مبهورين فبيننا أمينة رزق وسميحة أيوب ويوسف شعبان ومحي إسماعيل ومحمود ياسين وعزت العلايلي ونهير أمين ورجاء حسين وعايدة عبد العزيز وأحمد فؤاد سليم ومخلص البحيري وأمين بكير أخشى الذاكرة تخونني.
في بهو القومي قابلت نعمان عاشور وألفريد فرج يحضران للمشاهدة وشاهدت يوسف إدريس يناقش جمهور مسرحيته وخاطري الساذج يتسأل هل ينتظر كاتب مثله رأي أحد؟، في القومي رأيت أسامة أنور عكاشة يقف متوترا في كواليس المسرح ليلة العرض الأولى لمسرحيته وخاطري الساذج يتسأل أيضا هل بعد كل مجد الشاشة الصغيرة يخشى المسرح ؟.
في مكتبة القومي جلست طويلا لأقرأ نصوص المسرحيات تحف صفحاتها بأقلام المخرجين، تلك ملاحظات يوسف وهبي وهذا خط فتوح نشاطي وعبد الرحيم الزرقاني وتلك نصوص أخرجها حمدي غيث وسعد أردش وكرم ونبيل الألفي وكمال ياسين وكمال حسين وووووو أجيال كثيرة .
هذه المعلومات قدمها لي أمين المكتبة وكان أمين بمعنى الكلمة أستاذ محمد حسن رجل حفظ لمصر تراث المسرح القومي وله فضل على شخصيا إذ سمح لي ولكثير من الباحثين الاطلاع والمعرفة كخبير بكل رف وكل ورقة وكل صورة بتوجيه أب حنون .ولعلني في السياق أتسأل أين المكتبة الاّن بعد عودة المسرح لمقره وهل تفتح للباحثين أتمنى لها أمين أمين مثل أستاذ محمد حسن رحمه الله .
في مسرحنا القومي قابلت عبد المنعم فضلون وعاصم البدوي مخرجين منفذين قادا العمل بدون أن تسمع صوت في كواليس المسرح، فتجد عم جرجس وبكري وحسن ونبيل وغيرهم عمال وفنيين تسقي حبات عرقهم خشبته .
في القومي قابلنا فؤاد السيد الذي أثرنا بمحبته وعطائه رحمه الله، جمال حجاج وبطرس وأسامة، أعتذر لمن سقط اسمه سهوا، جميعهم يمضي يومه منذ الصباح إلى أخر الليل في المسرح لقاء عائد مادي لا يفي بكل هذا لكنها الروح التي تظللها من أعلى الخشبة كلمات بيت شعر أمير الشعراء :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا .