الذات هى النفس البشرية، ذلك المخلوق العظيم الذى كرّمه الله سبحانه وتعالى بأن أمر الملائكة بالسجود له، وطرد إبليس من رحمته برفضه السجود له، وإذا كانت نفسك عظيمة عند المولى عز وجل، فإنها أمانة لديك يجب صونها باتباع الأوامر واجتناب النواهى، وبنزولها على الأرض وضع الله لها ناموسا لحفظها بأن تكون بعيدة عن الهوى، وأن تفعل الخيرات التى تنعكس بالضرورة على وجهك بالطمأنينة والرضا.
فخلق الله الملائكة من النور تسعى بين يديه تسبّح بحمده، وخلق الإنسان من الجسد والروح فإذا ما غلبت شهواته الجسدية فإن رصيده الروحانى يقل ويكون بشرياً، وإذا ما استمر فى اتباعه للأهواء النفسية فإن رصيده الروحانى يستمر فى الهبوط، وإذا ما جاهد غرائزه يصبح صاحب ذات عالية سامية.
ولا أنكر أننا جسد وروح، ولكل جزء احتياجاته ومتطلباته، لكن حتى الروح قد تستمد غذاءها من الجسد السليم، فمثلاً حين تصوم وتجوع معدتك فتهذب نفسك وتجعل روحك عالية، وحينما تتوضأ أو تصلى تحصل على الطاقة الإيجابية الروحية لنفسك التى وصلت لها عن طريق أعضائك الجسدية التي تتكامل معا ولا تتنافر أبداً، حكمة الله التى وضعها الله فى أرواحنا وأجسادنا.
فالنفس البشرية ألهمها الله فجورها وتقواها التى يترجمها الإنسان فى أفعاله وسلوكه.
إذن قد نعذب روحنا ونشقيها قبل أن يحاسبنا الله، وقد نسعدها ونرضيها بأفعالنا أيضاً، فقد تخوض مع نفسك معركة لتدميرها وتشعر معها بالهزيمة النفسية، وقد تقدم لها الوقود الإيجابى بالأفعال الطيبة والسريرة النقية التى تجعل ضميرك مستريحاً ومستقراً فيخوض الإنسان معركته فى الحياة مع نفسه قبل معركته مع الآخرين.
وقد تجد منا من يحب نفسه بأن يقدر روحه التى خلقها الله على أكمل وجه فيحترمها بكل فعل يقترفه، ولا أقصد أن يكون أنانياً مغروراً فهما مختلفان تماما، فالشخص الذى يقدر ذاته يعرف محاسنها ويواجه عيوبها، وحريص أن يحترم ذاته فى مواجهة الآخرين، فيضع لنفسه أهدافاً ليحقق نجاحه، ويسير فى طريقه وهو راض عن نفسه منطلق من منظومه قيمية واضحة من المثل العليا، ولا يهتم باقتحامات الآخرين التى تعطله عن مسيرته، ففى العادة يرغب البعض فى تعطيل الآخرين عن إتمام نجاحهم إما لفشلهم فى تحقيق هذا النموذج أو رغبة فى سرقة نجاح الآخرين فى وقت يتواجد فيه النموذجان.
فالشخص الذى يقدر ذاته يسير فى طريقه غير مبالٍ بما يواجه من تحديات، ويقدم فى نفس الوقت شيئاً من التعاون والتعاطف مع الآخرين ولكن بشرط ألا يعطله عن نجاحه، فهو عقد العزم أن يتحمل تبعات نجاحه بمسئولية كاملة، أما الشخص الأنانى فهو خامل لا يهتم بالآخرين ولا بمعاناتهم أو آلامهم، فلا يكلف نفسه أعباء التفكير حتى فيما يحقق له النجاح، فهو ينتظره حتى يأتى إليه بمجهود غيره، وفى نفس الوقت لا يتأثر بأوجاع الآخرين، فى هذه الحالة يجد الأنانى متعته الذاتية فى سعادة نفسه فقط مهما كان الأسلوب الذى يحقق به هذا الهدف.
وقد تمتلك نفسك قيماً ذاتية قد تستطيع أن تتكيف مع المحيط الخارجى وقد لا تستطيع.. نحن أمام نماذج مختلفة، فمثلا إذا كان شخصاً صاحب ذات ونفس سوية يخوض معركته فى بيئة متنوعة يتواجد بها كل النماذج السليمة والمعوجة، فإذا كان صاحب نفس قوية فإنه يخوض معركته وهو على علم أنه يجاهد نفسه ويجاهد من حوله فلا ينجرف للسيء ولا ينهزم مع شرط أن يمتلك شيئاً من المرونة النفسية حتى تزكى نفسه عند المواجهة فتحميها من الانكسار أو التمزيق وكل ألوان الأذى .. فتحيا نفسه قوية ومتكيفة مع محيطه الخارجى بدون تنازلات فى محيط مختلف الطبائع البشرية، يختلف فيه قدر الجهاد النفسى والمعاناة، يظل صاحب النفس السوية فيها يتمتع بإرادة قوية وضمير إنسانى يحاسبه ولا يؤجل الحساب فيسهل الرجوع لذاته.
وقد تكون النفس المثالية بغير ذات القوة من الإرادة حتى أنها تفشل فى التوافق والتكيف مع البيئات الفاسدة، فقد تتجه للهجرة والانعزال فتنفرد بنفسها، وقد تستمر فى هذه الحالة من الاكتئاب خوفا من الانكسار، وقد يصاب بصدمة من جراء المواجهة، قد يستطيع العودة أو لا يستطيع، وقد يستطيع أن يستغل هذه العزلة لإعادة شحن طاقته النفسية؛ ليستعيد قوتها أو يدرس طرقاً جديدة ومختلفة فى المواجهة، فمراجعة الذات يجب أن تكون بطرق مبدعة لتحقيق الانتصار لها لتنتصر خارجها.. هنا تظهر قوة النفس فى إعادة إصلاحها من الداخل لتواجه الخارج الذى يكون فى الغالب أقوى منها.
واذا كانت النفس إيجابية وتحيا فى مجتمع يقترب من هذه الإيجابية تكون نفسا محظوظة فحجم الجهاد أقل.. وإذا كانت سلبية فى مجتمع يعتمد على نظرية الثواب والعقاب.. فإن المجتمع بقوانينه وأعرافه وضوابطه سيكبح جماح ضعفها لكنه قد يفشل فى تهذيبها، فعدم خطئه من الممكن أن يكون نتيجة خوفه من العقاب ومتى أتيحت له الفرصة سيخطئ.
الشخص القوى يراقب نفسه فى تصرفاته قبل مراقبة الآخرين له، فهو يتمتع برقابة نفسية قد ترتقى به لأنه يعلم يقيناً مراقبة الله له فيستحى من الخطأ.
وإذا كنا كلنا خطاءون وخيرنا التوابون فإن الأمر يحتاج منا أولاً أن نواجه أخطاءنا التى تستوجب أن يكون بين الإنسان ونفسه صلة الحديث والشرح والتقبل لذاته وإعادة الإصلاح التى قد تحتاج فى بعض الحالات إلى إجراء جراحات أو ترميم أو حتى ترقيع فورى لبعض العيوب أو إعادة تدوير لمخلفاتها لأن النفس كائن حى يحتاج إلى الرعاية والاحترام والرفق واللين.
فى رحلة الإصلاح يبدأ الإنسان بالتفكير المستمر فى إصلاح ذاته ليستعيد وجوده وذاته الروحية فى مواجهة شهوات ذاته الجسدية ونختلف فيما بيينا.. فمنا من يملك إرادة الإصلاح التى قد تصل إلى التغيير الذى يرتفع بدوره لدرجة الاستدامة فيحقق التغيير فى شكله المثالى، فيصبح الشخص معه صاحب ضمير حى يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الآخرون، ويتصالح مع نفسه بأن خلق فى نفسه الحرية فى اختيار أفعاله فيعلم متى يقول نعم ومتى يقول لا، فيبتعد عن الإجبار الذاتى لنفسه فلسنا مخلوقين من أجل الآخرين، فيجب أن تحب نفسك أولاً حتى تستطيع أن تحب الآخرين، فكم من أشخاص عاشوا حياتهم فى بذل وعطاء من أجل الآخرين ولم يحصلوا على كلمة ثناء أو شكر فى المقابل فأصيبوا بالإحباط والانكسار، فإذا لم ينعكس حبك للآخرين على نفسك بالسعادة، فحتماً ستشعر نفسك بالتعاسة والحزن، ولا ينفى ذلك أن كثيراً منا يجدون السعادة فى فعل الخير ورؤية الفرحة فى عيون الآخرين، هذه أمور تعكس لغز النفس البشرية لتحقيق حالات الطمأنينة النفسية التى تتواجد بالضرورة إذا ما كانت حرة حرية مطلقة فى أن تفعل ما يرضيها أولاً طالما لا يتعارض مع الأخلاق القويمة فحتى التضحية لابد وأن تكون طواعية لا إكراه فيها وإلا أصبحت تعذيباً!
ومنا من يهمل إصلاح ذاته فتضيع منه أيضاً حتى إنه يهرب من مواجهتها، فيتعمد ألا يلتقى بها أبداً لأنه يعلم أن هذا اللقاء سيعذبه فيهرب من عذابها بأشكال مختلفة تبدأ من الاستسلام والاستسهال بالاستمرار فى طريق الغواية والبعد عن الإصلاح والتقويم حتى إننا نرى البعض يلجأ لحالات من الإدمان التى يغيب فيها الوعى أطول مدة ممكنة، فمهما كان الإنسان شريراً فإنه يعلم أنه مخطئ ومتجاوز لكن نفسه ضعيفة عن مقاومة مرض الشهوة فلا يستطيع أن يتكبد فاتورة الإصلاح التى قد يراها باهظة.
وهناك من يؤجل عمليات الإصلاح ظناً منه أن الوقت سيمهله، ولا يعلم أن العمر يضيع من بين يديه بمرور الوقت، على الرغم من أنه أيقن فى نفسه الخطأ، إلا أنه ينتظر الفرصة التى لم يسع إليها .
نقول دائما إن الجمال ليس فى الشكل وحده لكن فى جمال الروح أيضاً. ذلك الجمال المخفى الذى يدفعنا للبحث والتفتيش عنه داخل نفوسنا ونفوس غيرنا.. فخلقنا الله روحانيون فى قوالب جسدية.. منا من يقدر هذه النعمة ويحيا يحافظ عليها نظيفة غير ملوثة إجلالاً لنعمة المولى عز وجل.. ومنا من تدنى بها وجعلها كالآلة فتصدأ وينتهى عمرها الافتراضى حتى وإن لم يقض أجلها.. فيعيش أصحاب النفوس الميتة أحياء ميتين، ينتظرون ساعة الرحيل التى حانت قبل موعدها فى الحياة الدنيا كارهين لقاء الآخرة فكيف يستقبلونها بنفوس أنهكتها الشهوات الجسدية.